لقد أحدث قرار
القاهرة بالانضمام إلى جنوب أفريقيا
في القضية التي رفعتها ضد الاحتلال
الإسرائيلي أمام محكمة العدل الدولية، متهمة تل
أبيب بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، حالة من الاستغراب في الأوسط
الشعبية العربية، وربما داخل الكيان المحتل، فلطالما تغنى الاحتلال بالعلاقات
المتينة مع الأنظمة
المصرية ما قبل ثورة يناير وما بعد الانقلاب عليها، فما سبب
هذا التحول؟!
لقد أحاطت كل
الأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر؛ معاهدة السلام مع الاحتلال الإسرائيلي بكل
عناية، وتسابقت منذ التوقيع على معاهدة السلام على الحفاظ على تنفيذ شروطها، ودوام
التهدئة مع تل أبيب حتى مع وقوع بعض الخروقات الفردية من الجانب المصري، كرد فعل
شعبي غاضب على انتهاكات الاحتلال ضد الفلسطينيين، أو في المقابل عمليات التجسس من
قبل تل أبيب والتي يتم القبض على عناصرها.
في مقال "
قراءة
في حادث معبر رفح" حاولنا فهم ما وراء عملية إطلاق النار المتبادل بين القوات
المصرية على الجانب المصري من
رفح وقوات من جيش الاحتلال المارة على الجانب
الفلسطيني من المعبر، لكن السؤال ظل معلقا: هل كانت العملية فردية أم مدفوعة
بأوامر من قيادة الجيش المصري؟
ولعلنا اليوم
يمكن أن نجيب على هذا السؤال من خلال المعطيات الأخيرة على المشهد في
غزة وتبعاته
على المستوى السياسي في كل من القاهرة والدوحة وواشنطن، وحتى تل أبيب.
التعاون والتفاهم الكبير بين النظامين، جعل تل أبيب ترى في اجتياحها مدينة رفح الفلسطينية واحتلالها محور فيلادلفيا، ومن ثم السيطرة على معبر رفح، أمرا مقبولا من الطرف المصري، لكن العكس هو ما حدث، ولعل هذه الخطوة لم تكن القشة التي قصمت ظهر تماهي النظام المصري مع المواقف الإسرائيلية، بل سبقتها مواقف كثيرة أحرجت القاهرة
لقد كان التعاون
الوثيق بين القاهرة ما بعد 2013 والاحتلال في أوجه، حتى أن وزير الطاقة الإسرائيلي
السابق يوفال شتاينيتس، صرح في عام 2015 بأن رأس النظام المصري كنز استراتيجي
لإسرائيل، وتبعه في ذلك وأكد على رؤيته العديد من المسئولين الإسرائيليين، فلم
تشهد العلاقة والتعاون بين الطرفين أفضل من تلك الفترة في مجال الأمن والطاقة
والحفاظ على استقرار الكيان، من خلال ضرب الجماعات الجهادية التي تهدد الكيان من
سيناء، من جهة، وطمر وإغلاق الأنفاق التي كانت تُدخل السلاح والمؤن للمقاومة في
غزة من جهة أخرى، وهو ما جعل تل أبيب تقبل بدخول ما يقارب الـ66 ألف جندي مصري إلى
سيناء، أي ثلاثة أضعاف العدد المسموح به في المعاهدة، لتنفيذ خطة أمن الكيان.
هذا التعاون
والتفاهم الكبير بين النظامين، جعل تل أبيب ترى في اجتياحها مدينة رفح الفلسطينية
واحتلالها محور فيلادلفيا، ومن ثم السيطرة على معبر رفح، أمرا مقبولا من الطرف
المصري، لكن العكس هو ما حدث، ولعل هذه الخطوة لم تكن القشة التي قصمت ظهر تماهي
النظام المصري مع المواقف الإسرائيلية، بل سبقتها مواقف كثيرة أحرجت القاهرة،
أولها تلقف الإعلام العبري تصريح رئيس المخابرات في مصر تحذيره من عملية طوفان
الأقصى، ثم تعمد الاحتلال تعطيل إدخال المساعدات الإنسانية من معبر رفح، في وقت
أراد النظام المصري الظهور بمظهر الداعم للفلسطينيين، على الأقل على المستوى
الإنساني، للبناء على هذا الموقف فيما بعد الحرب، وهو ما قابلته إسرائيل بتعنت
أظهر النظام المصري ضعيفا أمام الرأي العام.
وكان الرد من
القاهرة بالتمسك برفض خطة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، والمتفق عليها منذ 2017،
في تصريح رأس النظام المصري أمام الكاميرات للرئيس الأمريكي السابق بأنه مستعد
لتنفيذ صفقة القرن، وفي المقابل، وبعد دخول القوات الإسرائيلية رفح، أعلنت أنها
اكتشفت ما لا يقل عن خمسين نفقا تصل إلى مصر، في محاولة لتأكيد أن النظام المصري
لا يقوم بمهامه، سواء من خلال الرشوة أو الإهمال. ولا شك أن هذا التصريح شكل
إحراجا للقاهرة، وما زاد الطين بلة هو الكشف عن قيام مسؤول في المخابرات المصرية
بتغيير البنود التي وافقت عليها إسرائيل لوقف إطلاق النار، وهو ما تسبب في إهدار
فرصة وقف الحرب وعودة المحتجزين في غزة، ومن ثم وقف الضغط الشعبي على نتنياهو.
بعد دخول القوات الإسرائيلية رفح، أعلنت أنها اكتشفت ما لا يقل عن خمسين نفقا تصل إلى مصر، في محاولة لتأكيد أن النظام المصري لا يقوم بمهامه، سواء من خلال الرشوة أو الإهمال. ولا شك أن هذا التصريح شكل إحراجا للقاهرة
في أوائل شهر أيار/
مايو الماضي، نُقل عن مدير المخابرات الأمريكي ويليام بيرنز، بأنه "ستبطل مصر
اتفاقية
كامب ديفيد" إذا استمرت عمليات رفح، وهو التصريح الذي تبعته تقارير
من الداخل المصري تفيد بأن القاهرة تفكر في سحب سفيرها من تل أبيب، ما يعني أن
إسرائيل مضطرة إلى حشد قواتها على الحدود الوحيدة الآمنة بعد الأردن، في وقت يلاقي
جيشها المنهك صعوبة في الجبهتين؛ الجنوبية في غزة والشمالية في لبنان، ما يعني
بالنتيجة مزيدا من الضغط على حكومة نتنياهو.
كثيرا ما أعرب
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في الفترة الأخيرة، عن حالة الإحباط التي
تنتاب الإدارة الأمريكية من تعاطي حكومة نتنياهو مع الأزمة في غزة، وأنها ستعيد
تقييم سياستها تجاه تل أبيب، وهو ما ظهر جليا في تصريحات بايدن نفسه، وقد نقلت
صحيفة "ذا تايمز أوف إسرائيل" فحوى محادثة هاتفية بين نتنياهو والرئيس
الأمريكي، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أعرب فيها الأخير عن إحباطه من تعاطي
نتنياهو مع الأزمة، وبحسب الصحيفة فقد كان بايدن غاضبا جدا لدرجة أنه أنهى
المكالمة بشكل مفاجئ، مما يسلط الضوء على العلاقة المتوترة بين الزعيمين في ذلك
الوقت، وهو ما قد يفسر حالة التحول التي تعيشها القاهرة مع تل أبيب.
يبدو أن صانع
السياسات في مصر استطاع أن يقرأ المشهد بعناية، ففي الوقت الذي أصبح فيه نتنياهو غير
مرغوب فيه، على الرغم من العلاقة الحميمة للرجل مع رأس النظام في مصر، إلا أن
الأخير وصانعي القرار في إدارته يرون أن نتنياهو هو من وضع نفسه في مساحة الاختيار
هذه، وبات على القاهرة أن تختار بين علاقة استراتيجية مع الإدارة الأمريكية التي
تنتظر انتخابات نهاية العام الجاري، وبين حكومة يمينية كان من المنتظر أن تحقق هدفا
بعيد المدى يريح الطرفين، لكنها سلكت الطريق الخطأ، فاختارت القاهرة التعاون
الاقتصادي والأمني والمساعدات، وأجّلت هدفها في التخلص من جار مزعج في الشرق.