في ذكرى مرور خمسين عاما على
حرب يونيو
1967، أصدر معهد دراسات الأمن القومي
الإسرائيلي بجامعة تل أبيب INSS عام 2018
كتابا مهما يحلل الحرب ونتائجها وتداعياتها على الساحات المختلفة: إسرائيلية
وفلسطينية وإقليمية ودولية. وهي تداعيات أوصلتنا اليوم إلى طوفان الأقصى. لذا،
فقراءة هذه الحرب أمر ضروري لفهم الأحداث الحالية، فالتاريخ كما رسم الماضي، فإنه
يرسم الحاضر، ويعطي صورة عن المستقبل.
شارك في هذا
الكتاب 15 باحثا، بعضهم شغل
مناصب قيادية في الجيش والأجهزة الأمنية، منهم: موشيه يعلون: وزير الدفاع الأسبق،
عاموس يادلين: القائد الأسبق لسلاح الجو ومديرية الاستخبارات العسكرية أمان، عودي
ديكل: الرئيس الأسبق لمديرية التخطيط بالجيش الإسرائيلي ونائب مدير معهد دراسات
الأمن القومي.
ملخص الكتاب
قبل حرب 1967، كانت إسرائيل دولة صغيرة ،
واقتصادها في حالة ركود. كما كانت وسط محيط معاد من العرب، مما خلق لديها شعورا
بتهديد وجودي وقلقا على قدرتها على النجاة من حرب تخوضها مصر والأردن وسورية
والدول العربية الأخرى. وقد زاد من ذلك ضيق الحيز الجغرافي فعرض أضيق نقطة فيه 14 كيلومترا.
اندلعت الحرب صباح 5 يونيو حزيران 1967، بعد
تدهور تدريجي على الجبهات بين إسرائيل والأردن وسوريا ومصر. على الحدود السورية،
فقد تركت القضايا الإقليمية والصراع على مصادر المياه دون حل منذ عام 1948. وفي
الضفة الغربية، التي كانت تحت السيطرة الأردنية، تزايدت أعمال الفدائيين
الفلسطينيين، وبلغت ذروتها مع عملية انتقام الجيش الإسرائيلي في قرية السموع في
نوفمبر 1966. أما مع مصر، فقد نشر جمال عبد الناصر - الذي كان يعتبر آنذاك زعيم
العالم العربي – قواته في سيناء، وأغلق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية مما
يضع إسرائيل في وضع اقتصادي واستراتيجي، لأن الغالبية العظمى من إمداداتها النفطية
كانت تأتيها من إيران عن طريق مضيق تيران. وعندما اُستنفدت الجهود لمنع الحرب، شنت
إسرائيل هجوما جويا مفاجئا ضد مصر وسوريا والأردن، والذي كان عاملا حاسما في
انتصارها، وتغيير وضعها الاستراتيجي بشكل كبير.
مكاسب إسرائيل من الحرب
كانت الحرب، حدثا تكوينيا غيّر وجه إسرائيل
والشرق الأوسط بأكمله. فأصبحت إسرائيل تشكل تهديدا للعمق الاستراتيجي للدول
العربية، وصارت قوة عظمى في المنطقة ذات تفوق عسكري. وأوضحت الحرب للعالم العربي
أنه غير قادر على تدمير إسرائيل. حتى الصعوبات التي واجهتها إسرائيل في حرب 1973
لم تغير هذه الحقيقة بشكل جذري. وزودت الحرب إسرائيل بعمق استراتيجي يتيح لها
مجالا للمناورة، وزودتها بمكانة لم تكن تتمتع بها في السابق داخل الرأي العالمي،
ولا بين صانعي السياسة الدولية والمجتمعات اليهودية في العالم.
عززت الحرب من صورة الجيش داخليا ودوليا.
وعززت أيضا الشعور بالأمن بين الجمهور والثقة بالنفس لدى القيادة السياسية والجيش،
إلى حد النشوة والتسمم. وشكلت التفكير العسكري والسياسي لفترة طويلة.
النتائج السلبية للحرب بالنسبة لإسرائيل
رافق هذا الانتصار تعقيدات جديدة، ولا تزال
بعض تداعياته تشكل معضلات ثقيلة يجب على إسرائيل معالجتها. ولذلك، فإن دراسة الحرب
واستخلاص نتائجها تجعل من الممكن تحليل التحديات الأمنية والسياسية والاجتماعية
المعقدة التي تواجه إسرائيل حاليا، وتقييم السيناريوهات المستقبلية.
وقد خلقت نتائج الحرب شرخا سياسيا عميقا في
المجتمع الإسرائيلي، وطرأ تغير على طبيعة نشاط الجيش نتيجة للموارد الهائلة التي
اُضطر إلى استثمارها في عمليات حفظ الأمن في قطاع غزة والضفة الغربية. كما نمت على
مدى العقود الماضية، منذ الحرب، الحركة الوطنية الفلسطينية بسرعة، وتُرجم ذلك إلى
ضغط دولي أكبر على إسرائيل لتخفيف معارضتها للمطالب الوطنية الفلسطينية. وأصبح
يُنظر إلى إسرائيل بشكل متزايد في الساحة الدولية كقوة
احتلال من نوع "تحول
داود إلى جالوت". وكان أيضا للنصر الإسرائيلي الحاسم في هذه الحرب آثار سلبية
على المدى الطويل فيما يتعلق بالردع الإسرائيلي، هي:
كانت الحرب، حدثا تكوينيا غيّر وجه إسرائيل والشرق الأوسط بأكمله. فأصبحت إسرائيل تشكل تهديدا للعمق الاستراتيجي للدول العربية، وصارت قوة عظمى في المنطقة ذات تفوق عسكري. وأوضحت الحرب للعالم العربي أنه غير قادر على تدمير إسرائيل. حتى الصعوبات التي واجهتها إسرائيل في حرب 1973 لم تغير هذه الحقيقة بشكل جذري. وزودت الحرب إسرائيل بعمق استراتيجي يتيح لها مجالا للمناورة، وزودتها بمكانة لم تكن تتمتع بها في السابق داخل الرأي العالمي، ولا بين صانعي السياسة الدولية والمجتمعات اليهودية في العالم.
1 ـ قلل الشعور بالإنجاز والنشوة في المجتمع
الإسرائيلي من الدافع للتعلم واستيعاب دروس الحرب، وتجمد التفكير العسكري مما أثر
بدوره على عمليات الجيش الإسرائيلي حتى حرب أكتوبر تشرين الأول 1973.
2 ـ لم تعزز الأراضي الملحقة بدولة إسرائيل
الشعور بالثقة بالنفس فحسب، بل أدت أيضا إلى: إهمال التفكير في الدفاع، والاستيعاب
الجزئي للآثار الجيوستراتيجية للأراضي المضافة.
3 ـ تأكل وفشل الردع الإسرائيلي: كان الهدف
من هذا الإنجاز العسكري هو إعادة تأكيد قوة الردع الإسرائيلية وتعزيزها، ومنع
القادة العرب وقادتهم العسكريون من الإقدام على أي عمل عسكري آخر ضد إسرائيل،
وتأجيل الحرب القادمة. ولكن، لم يجتز الردع الإسرائيلي الاختبار. فقد بدأت حرب
الاستنزاف بعد فترة وجيزة ، واستمرت حتى صيف 1970. كما فشل الردع الإسرائيلي مرة
أخرى عندما اندلعت حرب 1973 بعد ثلاث سنوات فقط من نهاية حرب الاستنزاف.
4 ـ الهزيمة في حرب 1973: يمكن أن يُعزى
النجاح المصري في المراحل الأولى من حرب 1973 إلى التفكير العسكري الجامد والنشوة
بين بعض قادة الجيش الإسرائيلي بعد الانتصار المذهل لحرب الأيام الستة. لذا وجد
الجيش الإسرائيلي نفسه في وضع أدنى في أكتوبر 1973.
تداعيات الحرب على ساحات الصراع
خلقت حرب 1967 أربع ساحات صراع رئيسية:
الساحة الإسرائيلية الداخلية، الساحة الإسرائيلية الفلسطينية، الساحة الإقليمية،
والساحة الدولية. تتداخل هذه الساحات، وتنعكس العلاقة بينها في العديد من
الموضوعات، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية: القضايا الأمنية السياسية،
الأبعاد العسكرية، والعلاقات المدنية العسكرية.
أولا ـ التحدي العسكري وتناقضات القوة
قبل الحرب، عاشت إسرائيل تحت ظل التهديد
العسكري العربي. وعلى الرغم من أن القيادة العسكرية كان لديها شعور بالثقة في قدرة
الجيش على هزيمة الجيوش العربية رغم التفاوت العددي الكبير، بشرط أن يتم ذلك بضربة
وقائية. لكن في المقابل، لم تشارك القيادة السياسية هذا المستوى من الثقة، وطلب
رئيس الوزراء آنذاك ليفي إشكول متابعة جميع الاحتمالات السياسية على المستوى
الدولي من أجل تجنب الحرب. ومع ذلك، فقد
غيرت نتائج الحرب الموقف السياسي والعسكري والمجتمعي دفعة واحدة. وفي إطار الردع
ومفارقات القوة، فقد كان لحرب الأيام الستة وما تلاها نتائج مهمة لإسرائيل، هي:
1 ـ تسارع حشد القوة:
في حين أن حرب 1973 هي الحرب الأخيرة التي
قاتل فيها الجيش الإسرائيلي جيوشا نظامية؛ لكنها أصبحت عنصرا مهما في قدرة إسرائيل
على الردع، وشجعت على استنتاج القادة العرب بأنهم غير قادرين على هزيمة إسرائيل
عسكريا.
2 ـ تحويل إسرائيل إلى رصيد استراتيجي
للولايات المتحدة:
كانت الحرب سببا في تطوير "العلاقة
الخاصة" بين إسرائيل والولايات المتحدة التي أصبحت الولايات المتحدة الراعي
الاستراتيجي لإسرائيل والمصدر الرئيسي لأسلحة الجيش الإسرائيلي.
3 ـ بروز تهديد المقاومة والحرب غير
التقليدية:
في العقود التي تلت حرب 1973، أصبحت
المقاومة وأسلحتها هي التهديدات الأمنية الرئيسية التي تواجه إسرائيل. وشهدت
الساحة الفلسطينية واللبنانية لبعض الوقت: الانتفاضة الفلسطينية الأولى
(1987-1993)، وهجمات الاستشهاديين الفلسطينيين في التسعينيات، والانتفاضة الثانية
(2000-2005)، إضافة إلى حرب لبنان الثانية (2006)، فضلا عن جولات الصراع مع حماس
في غزة مثل 2009، 2012 و2014، والتي عملت كلها على فضح مفارقة القوة التي تحد من
حرية الجيش الإسرائيلي في العمل أمام قوات غير حكومية تندمج مع السكان المدنيين،
ولا تمكنه من استخدام قدراته كجيش قوي ومجهز تجهيزا جيدا.
4 ـ حرب استنزاف للمجتمع الإسرائيلي:
طورت المقاومة قدرتها على استخدام قذائفها
وصواريخها. وصارت قادرة حسب رؤيتها على جر الجيش الإسرائيلي إلى صراعات مطولة تشكل
حرب استنزاف للمجتمع الإسرائيلي الذي يجد صعوبة في تحمل صراع منخفض المستوى مع
مرور الوقت ويشعر بالقلق إزاء الخسائر. لذا أصبحت قوة الجيش الإسرائيلي ضعفا،
وتُرجم الضعف العسكري لدى حماس وحزب الله إلى قوة لأنهم يعملون في مناطق مأهولة
بالسكان.
5 ـ تحويل الجيش الإسرائيلي إلى قوة شرطة:
في الانتفاضة الأولى، وجد الجيش الإسرائيلي
نفسه في مواجهة انتفاضة شعبية عنيفة، واُضطر إلى تعزيز قواته على الأرض، وتعديل
أساليب عملياته، وتطوير وسائل غير قاتلة للسيطرة على الحشود، والعمل في شكل مهام
شُرطية صعبة، مما تطلب تغيير طريقة عمل الجيش الإسرائيلي في الأراضي وإجراء
تغييرات هيكلية وتنظيمية. فتم إنشاء فرق ووحدات خاصة بالضفة والقطاع، ودمج قوات
حرس الحدود بشكل أعمق في النشاط العسكري.
6 ـ عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على مواجهة
الحرب الشعبية:
قوض طول أمد الانتفاضة الأولى من ثقة رئيس
الوزراء ووزير الدفاع آنذاك إسحاق رابين في قدرة الجيش الإسرائيلي على مواجهة
التحدي. وكان أحد أسباب دعمه للحوار، الذي عقد في أوسلو خلف الكواليس بين
الإسرائيليين والفلسطينيين في محاولة لصياغة تفاهمات من المتوقع أن تمهد الطريق
لمحادثات السلام التي نتج عنها اتفاق أوسلو 1993.
7 ـ تغيير أساليب عمل الجيش الإسرائيلي:
منذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، زادت
حماس، مثل حزب الله، في قوتها التنظيمية وسيطرتها على السكان والأراضي، كما حاربت
إسرائيل باستخدام تكتيكات المقاومة وإطلاق القذائف والصواريخ. وقد تطلب نشاط حماس
وقوتها المتزايدة، ولا سيما الحرب التي تشنها في المناطق الحضرية، من الجيش
الإسرائيلي تحديث قدراته العملياتية في ساحة معركة غير متماثلة. وقد أدت الانتفاضة
الثانية إلى تغيير شامل في أساليب عمل الجيش الإسرائيلي جزئيا بهدف التعامل مع خطر
الاستشهاديين.
لقد نشأ واقع سياسي جديد، حيث كانت السلطة
الفلسطينية قد تأسست بالفعل بموجب اتفاقات أوسلو. ومع ذلك، عندما بدأت أعمال
العنف، لعبت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية دورا قياديا في المواجهة.
وبالمقارنة مع الوضع قبل حرب الأيام الستة، عندما واجهت إسرائيل تهديدا عسكريا
وجوديا، فإن اقتصاد إسرائيل ومجتمعها حاليا أكبر بكثير وأقوى بكثير، وإسرائيل
مزدهرة اقتصاديا وتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن مصادر القوة هذه هي بالضبط التي تجعلها
أكثر حساسية لهجمات المقاومة وكذلك لنيران الصواريخ والقذائف. وعلاوة على ذلك، فإن
الحساسية تجاه الإصابات، المدنية والعسكرية على حد سواء، تحد من حرية العمل لكل من
الجيش الإسرائيلي والحكومة.
وفي الوقت نفسه، فإن العمل ضد تنظيمات
المقاومة – الجهات الفاعلة غير الحكومية - يضع الجيش الإسرائيلي في مواقف إشكالية
يتعرض فيها المدنيون للأذى. وقد أدت ساحة المعركة المعاصرة، حيث تتمتع وسائل
الإعلام بحضور واسع النطاق، وتبث وسائل التواصل الاجتماعي على الهواء مباشرة، إلى
وضع تتعرض فيه عمليات الجيش الإسرائيلي لانتقادات دولية قاسية. وعلى هذه الخلفية،
تتعرض إسرائيل لإجراءات قانونية دولية وحملات لنزع الشرعية.
ثانيا ـ تحدي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
بدأت التحولات في الساحة الفلسطينية
الإسرائيلية مع احتلال قطاع غزة والضفة الغربية الذي غيّر من الواقع الإسرائيلي
الفلسطيني بين عشية وضحاها. إذ وجدت إسرائيل نفسها تقوم بالسيطرة المباشرة على عدد
أكبر بكثير من الفلسطينيين المقيمين داخل الحدود السابقة لإسرائيل. ولم تحدد
الحكومة أهدافا استراتيجية فيما يتعلق بالأراضي المحتلة. وقد وقع عبء حكم
الفلسطينيين على عاتق الجيش الإسرائيلي، الذي أصبح صاحب السيادة في الأراضي بسبب
وضعها الدولي كأرض تحت الاحتلال العسكري. وكان وزير الدفاع موشيه ديان هو السلطة
السياسية الرئيسية المشاركة في إدارة الأراضي والحياة اليومية للسكان الفلسطينيين:
1 ـ الضفة والقطاع تحت الحكم العسكري:
قام ديان بإنشاء وحدة تنسيق أعمال الحكومة
في المناطق، تقدم تقاريرها إليه، ومسئولة عن إدارة الحياة للفلسطينيين. وقد تم ذلك
عن طريق حكام عسكريين في مختلف مناطق القطاع والضفة الغربية. وفي وقت لاحق، شملت
مسؤولية وحدة تنسيق أعمال الحكومة يهود المستوطنات التي أقيمت في المناطق. وفي
أعقاب اتفاق السلام مع مصر عام 1979، تم استبدال الحكومة العسكرية في المناطق
بالإدارة المدنية، في محاولة لإعطاء السيطرة الإسرائيلية على الأراضي نكهة مدنية
أكثر، على الرغم من أن هذا التغيير كان تجميليا إلى حد كبير.
2 ـ الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد أوسلو:
حصلت السلطة الفلسطينية بعد تأسيسها على بعض
صلاحيات الإدارة المدنية. وأدى فك الارتباط الإسرائيلي من غزة في 2005 إلى تقليص
المساحة الخاضعة لسيطرة الإدارة المدنية إلى المنطقة (ب) التي يتم تنسيق السيطرة
عليها بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، والمنطقة (ج) الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية
الكاملة في الضفة الغربية.
3 ـ مصير الأراضي المحتلة بين الاستيطان
والمقاومة:
أدت النتائج الإقليمية للحرب إلى تكثيف
النقاش حول أرض إسرائيل وضخ محتوى جديد فيه، وأبقى المشروع الاستيطاني الإسرائيلي
في قطاع غزة والضفة الغربية النقاش حيا. وأصبح مستقبل الأراضي نقطة تحول في
السياسة الإسرائيلية. إنها القضية الرئيسية التي تميز اليمين عن اليسار. وأظهرت
اتفاقات أوسلو الانقسام بين أولئك الذين يطالبون بانتشار إسرائيلي جديد في
المناطق، بما في ذلك الانسحاب الذي من شأنه أن يمكن من تطبيق فكرة "دولتين
لشعبين"، وأولئك الذين يطالبون بالسيادة الإسرائيلية في الضفة الغربية لأسباب
أمنية أو أيديولوجية.
إن نشوة النجاح العسكري، والمكاسب الإقليمية، والشعور بالتحرر من القلق الذي كان سائدا قبل الحرب، سمح بتأجيل النقاش حول الحرب وأهدافها. وخلافا لحرب 1956، التي انطوت على أهداف واضحة سعى الجيش إلى تحقيقها، فإن العلاقة المضطربة بين الحرب ونتائجها على المدى الطويل قد حددت في إسرائيل، إلى حد كبير: الطبيعة الإشكالية للعلاقات المدنية ـ العسكرية، ومدى التفاعل بين المستويين السياسي والعسكري.
وقد شهدت السنوات التي أعقبت حرب الأيام
الستة تطورا سريعا للقومية الفلسطينية وترسيخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية
كممثل حصري للشعب الفلسطيني. ولذلك، فإن الحرب، التي يراها الكثيرون في إسرائيل،
قد أعادت أجزاء من الوطن اليهودي التاريخي إلى الدولة وسهلت إحياء الصهيونية،
فإنها في الوقت ذاته قد عززت المشاعر القومية الفلسطينية. وأعادت إسرائيل إلى فترة
ما قبل قيامتها، حيث كان تقسيم أرض إسرائيل والسيادة عليها موضوع خطاب عام.
ثالثا ـ آثار الحرب على المجتمع الإسرائيلي
أدى الجدل الدائر حول مستقبل الأراضي
المحتلة إلى تعميق الانقسامات في المجتمع، مدى ديمقراطية وليبرالية النظام السياسي
الإسرائيلي، والعلاقة بين المدني والعسكري. وبعد مضي هذه العقود، فإن السيطرة على
شعب آخر على المدى الطويل ستقوض مكانة إسرائيل الدولية. كما أن سيطرة الجيش
الإسرائيلي على هذه الأراضي تضعه في مواقف حساسة وإشكالية. ومن بين التحديات
الأكثر خطورة، أنه في كثير من الحالات يُنظر إلى التوصيات المهنية المقدمة من
الجيش إلى الحكومة من خلال عدسات أيديولوجية، على الرغم من أن كبار القادة
العسكريين ملتزمون برؤية واسعة وشاملة للواقع في المناطق وخارجها. ولذلك فإن رؤاهم
ومقترحاتهم تستند في المقام الأول إلى تحليل الآثار الإقليمية والدولية؛ بيئة
الإعلام والعلاقات العامة والتداعيات القانونية؛ ومعرفة متعمقة بالسكان في المناطق
وطريقة حياتهم.
تواجه الحكومة الإسرائيلية صعوبة في تقرير
مستقبل المناطق، فضلا عن الاعتقاد بأنه سيكون من الصعب كسب تأييد شعبي واسع لخطة
سلام تتطلب تنازلات بعيدة المدى ـ قد خلقت وضعا فيه يجد الجيش الإسرائيلي نفسه في
قلب النقاش العام والسياسي.
الخلاصة
على الرغم من أن حرب الأيام الستة يُنظر
إليها على أنها إنجاز لإسرائيل وجيشها؛ إلا أن نتائجها لم تكن متوافقة مع الأهداف
المحدودة نسبيا للحكومة الإسرائيلية آنذاك، إذ لم يكن استغلال الانتصار العسكري
على الجبهات الثلاث نتيجة تعليمات صادرة عن الحكومة، ولم يكن هناك تصور لليوم
التالي؛ بل في معظم الحالات، تم تحديد مسار الحرب من قِبل القادة العسكريين تحت
ضغط من القادة في الميدان، دون تقدير للنتائج والآثار المحتملة في المستقبل.
إن نشوة النجاح العسكري، والمكاسب
الإقليمية، والشعور بالتحرر من القلق الذي كان سائدا قبل الحرب، سمح بتأجيل النقاش
حول الحرب وأهدافها. وخلافا لحرب 1956، التي انطوت على أهداف واضحة سعى الجيش إلى
تحقيقها، فإن العلاقة المضطربة بين الحرب ونتائجها على المدى الطويل قد حددت في
إسرائيل، إلى حد كبير: الطبيعة الإشكالية للعلاقات المدنية ـ العسكرية، ومدى
التفاعل بين المستويين السياسي والعسكري.
وعلى الرغم من توفير إسرائيل لسكانها
المدنيين الحماية في مواجهة مجموعة متطورة من التهديدات للجبهة المدنية ـ المعروفة
باسم "الجبهة الداخلية" أو "المؤخرة" ـ منذ حرب الأيام الستة؛
إلا أنها مع تضاؤل التهديد التقليدي للدول العربية، فقد واجهت خلال العقود السابقة
تهديدا متزيدا ومستمرا للجبهة الداخلية بسبب حركات المقاومة. مما يفاقم خطرة
التهديد أن حكومة إسرائيل، من خلال رد فعلها الرسمي على طبيعة ونطاق التهديد على
الجبهة المدنية، تساهم في الأصداء الناجمة عن هذه التهديدات، وبالتالي تضخيمها في
المجال العام. كل هذا له آثار مباشرة وسلبية على تصور إسرائيل للتهديد الأمني،
وبالتالي على تصورها للصراع العسكري مع خصومها.
وقد خلقت حرب الأيام الستة واقعا جديدا في
الساحة الإسرائيلية الفلسطينية. ففي السنوات التي سبقت الحرب، كانت هناك أطر
تنظيمية فلسطينية محددة، في مقدمتها فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. ومع ذلك، كانت
النتيجة العسكرية والإقليمية والسياسية للحرب وتداعياتها المعقدة والطويلة الأجل
على العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل هي التي شكلت الظروف لنمو الحركة الوطنية
الفلسطينية وتحولها للاعب رئيسي. وقد تقلبت قوة الحركة منذ حرب 1967، حيث شهدت
ارتفاعات وانخفاضات.
وعلى المستوى العربي، فقد أدت حرب الأيام الستة
إلى تغييرات واسعة في مفهوم الأمن القومي العربي والمواجهة مع إسرائيل. وأدركت مصر
والأردن وسوريا التفوق النوعي لإسرائيل، وأنه يستحيل هزيمتها عسكريا، مما دفع مصر
والأردن إلى توقيع معاهدتي سلام؛ أما سوريا فقد حافظت على هدوء دائم في هضبة
الجولان. وقد ساهمت عوامل أخرى في التغييرات العربية، منها: تصاعد الخطر الإيراني،
تواجد القوى الكبرى في المنطقة، حروب الخليج الثلاث، والربيع العربي.