تمكن حزب الله من
فرض إيقاعه على المعارك شمال فلسطين المحتلة، وبات أكثر جرأة وقدرة على المبادرة، إذ
لا يفوّت أي فرصه لتوسيع دائرة لاستهداف داخل الأراضي الفلسطينية، فبعد كل عميلة
اغتيال يقوم بها الاحتلال في لبنان، يعمد الحزب على فرض واقع جديد يقوض من خلاله الأمن
الإسرائيلي وخطوطه الحمراء، مقتربا شيئا فشيئا من حيفا والمراكز الحيوية داخل كيان
الاحتلال الإسرائيلي.
وهذا واقع نجح
حزب الله اللبناني بفرضه دون مقاومة كبيرة من الاحتلال الإسرائيلي، إذ أعلن رئيس
المجلس التنفيذي لـ"حزب الله" هاشم صفي الدين عن تصعيد مرتقب في
العمليات ضد إسرائيل، بالتزامن مع تشيع جثمان القائد العسكري في الحزب، طالب عبد الله،
الذي اغتاله الاحتلال الإسرائيلي بغارة جوية يوم الأربعاء شرق مدينة صور، وهو
تهديد ترافق مع إطلاق أكثر من 215 صاروخا ومسيّرة تابعة للمقاومة اللبنانية، طال
بعضها إلى جانب قاعدة ميرون وحبوشيت وكريات شمونة مدينة عكا وساحل حيفا، التي تعد
خطّا إسرائيليا أحمر.
في الوقت ذاته، طورت حركة أنصار الله الحوثية إلى جانب الفصائل العراقية، غرفة عمليات مشتركة
مكنتها من استهداف السفن والموانئ الفلسطينية المحتلة، وعلى رأسها أسدود وحيفا وأم
الرشراش (إيلات)، وبلغت ذروتها يوم أمس بعمليات مركبة ومعقدة شرق المتوسط وشمال
البحر الأحمر.
لم تعد المواجهة شمال فلسطين والبحر الأحمر وغرب العراق جبهة ثانوية تعمل على هامش المعركة الشرسة التي تخوضها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة مع الاحتلال، الذي يعتمد فيها على ارتكاب المجازر في حق المدنيين في القطاع لإظهار التفوق والسيطرة، وهي استراتيجية يجد الاحتلال الإسرائيلي صعوبة في اتباعها واستننساخها في لبنان واليمن والعراق وسوريا.
بهذا المعنى، لم
تعد المواجهة شمال فلسطين والبحر الأحمر وغرب العراق جبهة ثانوية تعمل على هامش المعركة
الشرسة التي تخوضها
المقاومة الفلسطينية في قطاع
غزة مع الاحتلال، الذي يعتمد فيها
على ارتكاب المجازر في حق المدنيين في القطاع لإظهار التفوق والسيطرة، وهي
استراتيجية يجد الاحتلال الإسرائيلي صعوبة في اتباعها واستننساخها في لبنان واليمن
والعراق وسوريا؛ فقدرته على الرد وتوظيف استراتيجية المستندة إلى التدمير
والاستهداف للمدنيين مقيدة؛ خشية اتساع نطاق الحرب، وتحولها من حرب محدودة تتسع
بشكل يصعب السيطرة عليها، إلى حرب إقليمية شاملة تتورط فيها الولايات المتحدة
وقواته المتمركزة في المنطقة العربية.
فقد كشف موقع أكسيوس
الأمريكي نقلا عن مسؤولين، أن إدارة بايدن متخوفة من اندلاع حرب محدودة تخرج عن
حدود السيطرة، وتعمل على تجنبها. ورغم أن المسؤولين تحدثوا عن كل شيء، إلا أنهم أخفوا
مخاوفهم من تورط أمريكي مباشر في حرب إقليمية أوسع، تجد صداها لدى كل من بكين
وموسكو، خصوم واشنطن في المنظومة الدولية.
تطور المعارك على
الحدود اللبنانية والجبهة العراقية والبحر الأحمر وصولا إلى شرق المتوسط، تضغط
بقوة على أعصاب الإدارة الأمريكية والقيادة العسكرية الأمريكية، خصوصا التي يشرف
عليها الجنرال الأمريكي مايكل كوريلا تحت مسمى المنطقة المركزية الوسطى (سينتكوم- CENTCOM)، ومقرها البحرين في الخليج العربي، فقواته باتت مشغولة بكثافة في معارك البحر الأحمر
والمحيط الهندي والعراق وشرق سوريا، ومتورطة إلى حد كبير في العدوان على قطاع غزة،
وهو العدوان الذي كتبت آخر فصوله بمجزرة النصيرات، التي كان للرصيف البحري الذي
تديره القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM)
دور بارز فيها؛ بلغ حدّ تورط الجنرال الأمريكي كوريلا شخصيا في الجريمة، بحسب ما
نقل عن الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفخاي أدرعي، الذي أكد وجوده خلال ارتكاب
المجزرة في الكيان المحتل ولقائه برئيس أركان جيش الاحتلال هرتسي هاليفي، فاتحا الباب لإمكانية
ملاحقة كوريلا جنائيا في مستقبل قريب لإسهامه في قتل أطفال ونساء غزة، وبتر وإتلاف
أعضائهم الخارجية والداخلية عبر إصابات بليغة بأسلحة فتاكة.
إطالة أمد الحرب
في ظل التصعيد والعجز عن إحراز نصر وتورط الجنرال كوريلا والقيادة المركزية الأمريكية؛
عبر تكثيف النشاط العسكري واللقاءات والتنسيق الذي لم ينقطع بين مايك كوريلا والجنرال
هرتسي هاليفي، جعل من إمكانية تورط الولايات المتحدة في حرب محدودة وأخرى إقليمية أوسع،
مسألة حتمية في حال استمر التصعيد والعدوان على قطاع غزة دون أفق لنصر، أو أفق
لحل سياسي عبر التفاوض ينهي الحرب وينزع فتيل التصعيد.
التفاوض في ظل
الانسداد العسكري وغياب الأفق السياسي الناجم عن غياب الرؤية السياسية لحكومة
الائتلاف الحاكم في الكيان المحتل، وعجز الإدارة الأمريكية وتطرف وضعف كفاءة وزير
خارجيتها أنتوني بلينكن، إلى جانب عجز القيادة العسكرية الأمريكية بقيادة كوريلا والقيادة
العسكرية الإسرائيلية عن إحراز نصر، أو تفعيل التحالفات الإقليمية والدولية لتشمل
قطاع غزة، دفع إدارة بايدن للانخراط المباشر في تعويم مسار التفاوض مع المقاومة
الفلسطينية بقيادة حركة حماس، عبر مدير المخابرات المركزية الأمريكية (CIA)
"وليام بيرنز" ومبعوث الرئيس الخاص إلى المنطقة "بيرت
ماكغورك" ومستشار الامن القومي "جيك سوليفان"، وذلك هروبا من انفجار إقليمي أوسع.
إذ كان سوليفان آخر
من تدخل عقب فشل جولة بلينكن الذي توفرت له فرصة لتصحيح أخطائه في المقابلة
الحصرية عبر شبكة الجزيرة، دون جدوى، ليسارع جيك سوليفان للتعقيب على رد المقاومة
على مبادرة بايدن المقدمة للحركة عبر الوسطاء بالقول؛ إن التعديلات التي وضعتها
حركة حماس على مقترح الاتفاق مع إسرائيل بشأن
وقف إطلاق النار بقطاع غزة، "طفيفة ومتوقعة"، خلافا لتصريحات بلينكن التصعيدية، مضيفا القول:
"هدفنا هو إنهاء هذه العملية. ووجهة نظرنا هي أن وقت المساومات قد انتهى،
وحان الوقت لبدء وقف إطلاق النار وعودة الرهائن إلى ديارهم"، معلنا بصراحة ووضوح
أن لا موعد نهائيا أو محددا للمفاوضات، والوصول لاتفاق مع حركة حماس كما زعم أنتوني
بلينكن.
الإدارة الأمريكية
باتت تدرك أنه لا حل سياسيا أو خفضا للتصعيد أو وقفا لإطلاق النار دون حركة حماس،
وأن التعامل مع حركة حماس على الطاولة سيكون أفضل بكثير من التعامل في اليوم
التالي لانفجار حرب محدودة مع عدد أكبر من اللاعبين، وبشكل يقوض النفوذ الأمريكي
ويعقد عمل القيادة المركزية الأمريكية التي يقودها الجنرال الأمريكي كوريلا، الذي
بات بدروه يواجه خطر تكريس صورته كحاكم عسكري للمنطقة العربية في حال اندلاع حرب
محدودة أو إقليمية شاملة، وهي صورة سترفع كلف الحرب وتعقد حسابات أمريكا السياسية
والعسكرية.
هل بات الوقت ضيقا لتكثف الإدارة الأمريكية الحالية جهودها لوقف الحرب والتعامل مع يومها التالي، أم إنها ستواصل التفاوض من أجل التفاوض بحثا عن خفض تصعيد وإدارة الصراع، واحتوائه لعدم توفر رؤية لليوم التالي للحرب، والخوف من تطوره إلى حرب إقليمية؟
مواصلة المفاوضات
والإبقاء على قنوات الاتصال وأدوار الوسطاء، يعد ثمنا بخسا إذا ما قيس بتصعيد يخرج عن
حدود السيطرة، وهي فحوى رسالة جيك سوليفان الأخيرة لحركة حماس وقوى المقاومة، إلا أن
ذلك لن يمنع من تصعيد كبير في حال استمرت المجازر في قطاع غزة ، الأمر الذي لا
يتحكم به سوليفان به، وإنما نتنياهو وهرتسي هاليفي، الذي بات معنيا أكثر من أي وقت
بتوريط القيادة العسكرية الأمريكية في صراع دموي وممتد؛ على أمل ضمان استمرار تدفق
المساعدات الأمريكية للكيان، ولحكومة الائتلاف الفاشية التي يقودها نتنياهو.
ختاما، التوصل
إلى اتفاق ينهي الحرب وفقا لشروط المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، يبقى الأمر
المنطقي الوحيد أمام التطورات والخسائر الكبيرة المتوقعة للنفوذ الأمريكي في الإقليم، وكذلك في الساحة الدولية، ففي حال استمر العدوان و"الحرب الأمريكية- الإسرائيلية"
على قطاع غزة، ستفقد أمريكا القدرة على إدارة صراعها مع روسيا والصين، ما يطرح سؤالا
بتركيبة استراتيجية مفادها الآتي:
هل بات الوقت
ضيقا لتكثف الإدارة الأمريكية الحالية جهودها لوقف الحرب والتعامل مع يومها التالي،
أم إنها ستواصل التفاوض من أجل التفاوض بحثا عن خفض تصعيد وإدارة الصراع، واحتوائه
لعدم توفر رؤية لليوم التالي للحرب، والخوف من تطوره إلى حرب إقليمية؟
سؤال مركب
ومتناقض تزداد الإجابة عنه تعقيدا واستحالة، في ظل دخول العامل الانتخابي الأمريكي
مرحلة جديدة؛ قوامها المواجهة المباشرة بين العجوزين جو بايدن ودونالد ترامب، اللذين
يستعدان لاختيار نائبين لهما في الرئاسة، إذ يتوقع أن يؤدي النائبان أدوارا مهمة في
حال تدهور صحة أي من المرشحين العجوزين سواء خلال فترة الانتخابات، أو بعد انتخاب أحدهما
كرئيس لأمريكا، فالتعقيدات والإضافات لا تنتهي على تفاصيل الحرب ويومياتها، سواء
ميدانيا أو داخليا في الساحة الأمريكي والإسرائيلية، أو إقليميا أو دوليا، خصوصا
بعد اجتماع الدول السبع الكبار في مدينة بالي الإيطالية يوم الخميس (13 حزيران/
يونيو)، لفرض عقوبات تصعيدية على روسيا ومن خلفها الصين.
x.com/hma36