يعمل
الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود على تدمير الحياة الاقتصادية في
غزة عبر فرضه إجراءات كثيرة من بينها رفض بناء ميناء للقطاع، فضلا عن تجريف وإحراق وتسميم آلاف الأفدنة من بساتين الحمضيات، بحسب مقال نشر في صحيفة "
واشنطن بوست".
وقال الزميل في شبكة السياسات
الفلسطينية، طارق كيني الشوا، في تقريره الذي نشرته الصحيفة الأمريكية وترجمته "عربي21": "تخيل أنك مزارع حمضيات. وأنك أمضيت أشهرا في التأكد من حصول أشجار البرتقال على الكمية المناسبة من الماء والأسمدة. ثم قطفت البرتقال من مزرعتك، وقمت بتعبئته بعناية في الصناديق وأرسلته ليتم شحنه إلى الخارج. ولكن بدلا من الوصول إلى الأسواق الدولية، يتم احتجاز البرتقال الخاص بك من قبل سلطات غير خاضعة للمساءلة أمامك بسبب "عمليات التفتيش الأمني" التعسفية على ما يبدو. تمر أيام، وأحيانا أسابيع، بينما تجلس صناديقك تحت أشعة الشمس الحارقة، وتضيع محتوياتها. وبحلول الوقت الذي يمر فيه البرتقال عبر نقاط التفتيش، يكون فاسدا وغير قابل للبيع".
وأضاف أن هذه هي الحياة التي عاشها مزارعو الحمضيات الفلسطينيون لعقود من الزمن تحت الاحتلال الإسرائيلي. وتثبت قصتهم شيئا واحدا: أن إسرائيل كانت وستظل دائما أكبر عقبة أمام ازدهار غزة.
ومع أن القارئ قد لا يصدق ذلك الآن، بحسب المقال، إلا أن غزة كانت ذات يوم مليئة ببساتين الحمضيات. ولمئات السنين، كان المزارعون الفلسطينيون يميلون إلى بساتين البرتقال والليمون الممتدة. وبحلول أوائل القرن العشرين، كانت الحمضيات هي الصادرات الرئيسية للمنطقة، بما في ذلك برتقال يافا الشهير، الذي سمي على اسم المدينة الساحلية الواقعة شمال غزة. وقد نجت هذه الصناعة من الاضطرابات العنيفة التي اندلعت عام 1948، وحصل مزارعو الحمضيات الفلسطينيون على دفعة عندما أعلنت السلطات المصرية، التي كانت تسيطر آنذاك، عن ميناء غزة كمنطقة تجارة حرة، ما فتح المزيد من الوصول إلى الأسواق الأوروبية. وبحلول الستينيات، كانت الحمضيات بمثابة العمود الفقري الاقتصادي للمنطقة، حيث وظفت أكثر من 30% من عمال غزة، وفقا للمقال.
وقال الشوا، لكن كل شيء بدأ يتغير بعد أن احتلت إسرائيل القطاع في عام 1967. فقد رفضت إعادة بناء ميناء غزة المدمر، ومنعت التجارة من وإلى مصر، وأعادت توجيه الحمضيات وغيرها من المنتجات عبر إسرائيل. وزادت السلطات الإسرائيلية من صعوبة الحياة بالنسبة للمزارعين الفلسطينيين. وقد حرمتهم القيود المفروضة على التصدير من الوصول إلى الأسواق الأوروبية المربحة، مما جعلهم يقتصرون على آسيا والشرق الأوسط. وقد أدت هذه الحواجز التجارية - إلى جانب ارتفاع تكاليف الوقود والأسمدة والقيود الإسرائيلية على استخدام المياه - إلى تقويض صناعة الحمضيات في غزة. وانخفض إجمالي الإنتاج، الذي كان حوالي 256 ألف طن في عام 1976، إلى 190 ألف طن بحلول عام 1983.
وشدد الكاتب على أن تلك كانت البداية فقط، فعلى مدى العقود التي تلت ذلك، قام الجنود والمستوطنون الإسرائيليون بتجريف وإحراق وتسميم آلاف الأفدنة من بساتين الحمضيات في جميع أنحاء غزة. وخلال الثمانينيات والتسعينيات، زعمت إسرائيل أنه من الضروري اقتلاع وتدمير بساتين الحمضيات حتى لا يمكن استخدامها لإيواء مقاتلي المقاومة الفلسطينية.
ولفت إلى أنه بالرغم من أن بعض بساتين غزة نجت من الهجمات المتكررة من قبل الجنود والمستوطنين الإسرائيليين، لكن "التدقيق الأمني" الخانق الذي قامت به إسرائيل هو الذي وجه الضربة القاضية لهذه الصناعة. واليوم، لم تعد أشجار البرتقال والليمون تنتشر في الريف. إن الصناعة التي كان من الممكن أن تكون بمثابة حجر الأساس للتنمية الاقتصادية في غزة أصبحت في حالة يرثى لها.
وأوضح أن الحملة التي شنتها إسرائيل لإفساد تجارة الحمضيات في غزة أصبحت نموذجا لتدمير عدد لا يحصى من الصادرات الأخرى. ففي عام 2021، طلبت السلطات الإسرائيلية من المزارعين في غزة إزالة العنق الأخضر المورق من ثمر البندورة قبل تمريرها عبر نقاط التفتيش الإسرائيلية لبيعها في الضفة الغربية. وبدون العنوق، تفسد البندورة بشكل أسرع. وبعد أيام من التفتيش الأمني الإسرائيلي المستمر، سينتهي الأمر بالمنتج، مثل البرتقال، إلى بضاعة فاسدة وغير قابلة للبيع.
وأشار إلى أنه عندما انسحب الجنود والمستوطنون الإسرائيليون من غزة في عام 2005، بعد ما يقرب من أربعة عقود من الاستيلاء على القطاع، فإنهم صوروا ذلك باعتباره نهاية للاحتلال العسكري المباشر. كثيرا ما يقول الإسرائيليون إن هذه كانت فرصة غزة لتحقيق إمكاناتها الكاملة، وإن الفلسطينيين كان بإمكانهم تحويل غزة إلى قوة اقتصادية، أو "سنغافورة الشرق الأوسط".
ولكن الحقيقة هي أن الاحتلال الإسرائيلي لم يتوقف قط، لقد تطور فقط. وكان الفارق هو أن المستوطنين والجنود الإسرائيليين أعيد انتشارهم الآن حول غزة للسيطرة عليها من الخارج. وتم تشديد القيود المفروضة على حركة الأشخاص والبضائع - وهي بالفعل حقيقة من حقائق الحياة اليومية للفلسطينيين في غزة. وعندما وصلت حماس إلى السلطة في عام 2007، تطورت تلك القيود إلى حصار كامل، ما حول قطاع غزة إلى ما يوصف منذ فترة طويلة بأنه أكبر سجن مفتوح في العالم. لقد كانت بمثابة حكاية تحذيرية، ودرس للفلسطينيين الآخرين بضرورة الإذعان للهيمنة الإسرائيلية الدائمة أو مواجهة مصير غزة، بحسب المقال.
وذكر الكاتب أن المزارعين الفلسطينيين في غزة قاموا بدورهم. لقد تصرفوا وفقا للقواعد، وزرعوا محاصيلهم في مواجهة التعديات الإسرائيلية على الأراضي والقيود التعسفية على التصدير. حتى إنهم تحولوا إلى محاصيل مثل الفراولة والطماطم، التي لا تنمو على الأشجار، وبالتالي فإنه لا يمكن اتهامهم بتوفير غطاء للمقاومين. لقد حاول الفلسطينيون أن يصنعوا شيئا ما من الظروف التي أجبرتهم إسرائيل على العيش في ظلها، لكن المحتلين عرقلوهم عند كل منعطف.
وقال إن صناعات الحمضيات والبندورة في غزة ليست سوى ضحية لجهود إسرائيل للسيطرة على الفلسطينيين أو خلق الظروف اللازمة لإجبارهم على الخروج بالكامل. وفي عام 2008، قال المسؤولون الإسرائيليون إنهم "ينوون إبقاء اقتصاد غزة على حافة الانهيار دون دفعه إلى حافة الهاوية". إن الهجوم الإسرائيلي الحالي على غزة ليس سوى نسخة متسارعة من عملية مستمرة منذ عقود.
وأضاف أن محنة غزة ليست نتيجة لطموحات فاشلة أو عدم بذل جهد من جانب شعبها. إنها نتيجة مباشرة لمشروع القهر الإسرائيلي الذي لا هوادة فيه. ولهذا السبب فإن المحادثات حول "اليوم التالي" لابد أن تدرك أنه لن يكون هناك مستقبل في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي.
ولو أن إسرائيل تريد حقا أن يحول الفلسطينيون غزة إلى مركز اقتصادي مزدهر، لكانت سمحت لهم على الأقل بتصدير البرتقال، بحسب الكاتب.