نشرت صحيفة "
الغارديان" البريطانية تقريرًا، تحدثت فيه عن استهداف إسرائيل العاملين في مجال الإعلام الفلسطيني، مسلطة الضوء بشكل خاص على قصص صحفيي بيت الصحافة.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إنه بينما كانت مدينة
غزة تهتز على وقع أصوات القنابل، توجّه عشرات الصحفيين إلى مبنى مكوّن من طابقين ذي جدران بيضاء في حي الرمال الراقي. كان ذلك صباح يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وكان المبنى مقرًا لبيت الصحافة، وهي منظمة فلسطينية غير ربحية تعمل على تدريب ودعم الصحفيين. وقبل أقل من 24 ساعة، اتصل حكمت يوسف، أحد مؤسسي المجموعة، هاتفيا بزميل له قائلًا: "استعدوا، علينا أن نذهب إلى المكتب".
وفي غضون ساعات، كانوا سيبلغون الصحفيين في غزة أن مؤسسة بيت الصحافة ستفتح مخزونها من السترات الواقية من الرصاص - دروع وخوذات زرقاء فاتحة اللون، مكتوب عليها "صحافة" وشعار كرتوني صغير لمنزل عليه طرف قلم على مدخنته.
قام حاتم رواغ (30 سنة) بتوقيع السترات الواقية من الرصاص واحدة تلو الأخرى، وكان مجموعها يزيد قليلاً على 80 سترة في المجمل، وتأكد من أن المتلقين يعرفون كيفية ارتدائها بشكل صحيح. حوّل يوسف غرفة الاجتماعات الوحيدة في المكتب إلى مساحة للموظفين المستقلين لحفظ النسخ. وتجمّع العشرات من الصحفيين حول مجموعة من الكابلات وأجهزة الحاسوب المحمولة المجمعة معًا على الطاولة.
كان بلال جاد الله يقف في وسط المكتب. كان طويل القامة ونحيفا، وله تعبير صارم يخفي روح الدعابة الجافة، ولطالما عمل مؤسس بيت الصحافة على مدى 10 سنوات على تعزيز رؤيته لحاضنة مستقلة سياسيا للصحافة الفلسطينية. لقد نجت المؤسسة من الصراع من قبل. وفي الحديقة الخلفية كانت هناك 17 شجرة زيتون، مزروعة تخليدا لذكرى الصحفيين الذين قتلوا خلال التصعيد في سنة 2014. وهذه المرة شعر جاد الله أن الوضع سيزداد سوءا. وقال لرواغ: "نحن نقف على شفا حرب. حرب كبرى".
كان عاطف أبو سيف (50 سنة)، وزير الثقافة الفلسطيني المقيم عادة في الضفة الغربية، قد زار غزة في رحلة قصيرة. وعندما شنت حماس هجومها، توجه إلى بيت الصحافة. كان يشاهد الصحفيين في غزة وهم يستعدون لتغطية الحرب. وكتب: "الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتفق عليه هو أنه ليس لدينا أدنى فكرة إلى أين يتجه هذا الأمر"، (رفض أبو سيف إجراء مقابلة، لكنه قدم للصحفيين نسخة من مذكراته، وسمح لهم بالاقتباس منها).
وبعد مرور ثمانية أشهر على هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، قُتل حوالي 37 ألف فلسطيني في الهجوم الإسرائيلي. وتمنع إسرائيل ومصر وسائل الإعلام الأجنبية من دخول غزة لتغطية الحرب. والمراسلون الفلسطينيون، مثل أولئك الذين دربتهم مؤسسة بيت الصحافة، هم الصحفيون الوحيدون الذين يقومون بتغطية الوضع على أرض الواقع.
يعتمد هذا التحقيق على 15 مقابلة مع أعضاء مجلس إدارة بيت الصحافة الحاليين والسابقين، والموظفين، والداعمين الماليين أو الدبلوماسيين، والأرامل أو غيرهم من أفراد الأسرة الباقين على قيد الحياة. وتم التحقق من الأدلة المصورة أو مقاطع الفيديو الخاصة بالحوادث المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي مع الشهود. وعملت
الغارديان مع منظمة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية لسرد هذه القصة، كجزء من تعاون نسّقته مؤسسة "فوربيدن ستوريز"، وهي منظمة غير ربحية مقرها باريس.
تصف لجنة حماية الصحفيين، وهي مؤسسة خيرية أمريكية لحرية الصحافة، الحرب بين إسرائيل وغزة بأنها الفترة الأكثر دموية للعاملين في مجال الإعلام منذ أن بدأت جمع أرقامها قبل ثلاثة عقود. وحتى حزيران/ يونيو، كان المرصد يتتبع 108 حالة قتل، من بينهم إسرائيليان قتلا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر.
وكان العديد من الصحفيين الذين تجمّعوا في بيت الصحافة يوم 8 تشرين الأول/ أكتوبر من بين القتلى. وبعد أربعة أشهر من قيام رواغ بتوزيع السترات الواقية من الرصاص وعددها 84، قُتل حوالي 12 منهم.
7 تشرين الأول/ أكتوبر
قبل تأسيس بيت الصحافة، كان جاد الله مسؤولا صحفيا كبيرا في السلطة الفلسطينية، الحكومة المفترضة للشعب الفلسطيني التي تشكلت في أعقاب محادثات السلام في التسعينات وتديرها حركة فتح العلمانية إلى حد كبير. وفي سنة 2007، سيطرت حركة حماس الإسلامية على قطاع غزة. وبعد أن فقد وظيفته، تبع جاد الله إخوته الثلاثة، الذين كان كل منهم يعمل لدى وكالة رويترز، في مجال الصحافة.
لكنه شعر بالإحباط بسبب السياسات المنقسمة في غزة. ومثل العديد من الفلسطينيين في غزة، بدأ المراسلون يتجمعون معًا في معسكرات منفصلة متحالفة سياسيًا، بينما انضم أنصار فتح أو حماس إلى نقابات مختلفة. وقد عبّر عن إحباطه لصديقه إبراهيم بارزاك، مراسل وكالة أسوشيتد برس، قائلًا: "لم يكن أحد يهتم بالإعلاميين الشباب، ولم يكن أحد يهتم بما سيكون عليه مستقبل الصحافة في غزة".
لم يعترض بارزاك على ذلك، لكن عندما اقترح جاد الله إنشاء نادي للصحافيين، دون الارتباط بأي فصيل سياسي، كان رد فعله الأول هو أن الفكرة ميؤوس منها. يتذكر بارزاك: "قلت له "إنها فرصة ضعيفة يا بلال. وهذا النوع من الأفكار يشبه المشي في حقل ألغام". مع ذلك، تمكنوا، مع يوسف وثلاثة مؤسسين آخرين، من جمع بضعة آلاف من الدولارات من مدخراتهم كرأس مال لبدء المشروع، وبدأوا المهمة الدقيقة المتمثلة في إقناع الفصائل السياسية في غزة بدعم فكرة إنشاء مجموعة من الصحفيين غير المتحزّبين.
عقدوا اجتماعات مع الصحفيين ونشطاء حقوق الإنسان ورجال الأعمال والدبلوماسيين. طلبوا نصيحتهم، واختبروا ردود أفعالهم، وأقنعوهم ببطء بالوقوف في صفهم. قال بارزاك إن جاد الله كان دائماً "شخصاً اجتماعياً للغاية". ولكن خلال هذه الفترة بدا أنه يمتلك قدرة شبه حربية على مجاراة من يتحدث إليه. وبحلول حفل افتتاح بيت الصحافة في سنة 2013، كان جاد الله قد أبحر ببراعة في المشهد السياسي لدرجة أن كلاً من فتح وحماس أرسلتا له رسائل تهنئة.
أصبح بيت الصحافة خليّة من النشاط. وقد أدارت المؤسسة برامج تدريبية لمنح المراسلين الشباب فرصة إجراء المقابلات السياسية. وكان نبيل شعث، كبير المفاوضين الدوليين السابقين لفلسطين، أول من أجريت معهم المقابلة. وقد زُرعت أشجار الزيتون في الحديقة الخلفية لإحياء ذكرى الصحفيين الذين قُتِلوا. وقد تبرّع الكاتب الفلسطيني الشهير توفيق أبو شومر بمجموعة من أجهزة الراديو العتيقة، التي نظمها جاد الله في معرض صغير.
قال روبن يوهانسن، السكرتير السياسي الأول في مكتب الحكومة النرويجية في الضفة الغربية، وهو أحد الرعاة الماليين الرئيسيين لبيت الصحافة، إن "بيت الصحافة يشبه برنامجًا ثابتًا على خط سير رحلة الدبلوماسيين الذين يزورون رام الله أو القدس". وتظهر الصور المنشورة على صفحة المجموعة على فيسبوك دبلوماسيين من بريطانيا وألمانيا والدنمارك وأماكن أخرى، وهم يبتسمون لالتقاط صورة مع جاد الله في مكتبه.
ذكرت الصحيفة أن يوسف عُيّن محررًا في وكالة "سوا" الصحفية المحلية. وكان يندفع إلى مكتب جاد الله للحصول على النصائح. قال يوسف: "التحديثات، والأفكار، والتخطيط، وكيف يجب أن نعمل وما الذي يجب أن ننجزه، وكيف يجب أن نغطي شيئًا ما، وحتى ما يجب أن يكون العنوان الرئيسي". لقد شجّع جاد الله أيضًا الأفكار الجديدة. وفي أحد الأيام، دخلت بليتسيا العقاد، وهي متدربة تبلغ من العمر 21 سنة في دورة تدريبية في التحرير، إلى مكتبه. وقدمت اقتراحها بتعيين مديرة لمواقع التواصل الاجتماعي في بيت الصحافة - وهو منصب لم يكن موجودًا من قبل، ناهيك عن إسناده إلى متدربة. استمع جاد الله ثم وافق. قالت: "هذا ما أحبه في بلال. إنه يمنح الناس فرصًا للنمو".
9 تشرين الأول/أكتوبر
قالت الصحيفة إن حماس قتلت 1139 شخصًا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، معظمهم من الإسرائيليين. وتم احتجاز أكثر من 200 شخص كرهائن. وأعلنت إسرائيل المصدومة من أكبر هفوة أمنية وطنية في تاريخها حالة الحرب.
وأضافت الصحيفة أنه تم استدعاء مئات الآلاف من جنود الاحتياط إلى جيش الدفاع الإسرائيلي. وبدأت الطائرات الحربية قصف مدينة غزة، في محاولة للقضاء على حماس. وقُتل ثلاثة صحفيين فلسطينيين في إطلاق نار بالقرب من المعابر الحدودية. وقُتل آخر مع تسعة من أفراد أسرته عندما سقطت قنبلة على منزله.
كان المصوران الشابان محمد صبح وهشام نواجحة من بين المصورين الشباب الذين جاءوا لاستلام ستراتهم الواقية من الرصاص ذات اللون الأزرق الفاتح. أما سعيد الطويل فقد أحضر له أحد أصدقائه واحدة. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، ذهب الثلاثة إلى مبنى الغفري، وهو أعلى برج في مدينة غزة ونقطة مراقبة مناسبة للتصوير الليلي (تم رصد تحركاتهم من خلال محادثات مع 11 مصدرًا، من بينهم آخرون كانوا يخيمون في البرج).
بعد منتصف الليل بوقت قصير، انتشر خبر أن الإسرائيليين أصدروا أمرًا بإخلاء برج حجي، وهو مبنى مكون من 11 طابقًا على بعد بضعة مبانٍ من البرج. وكان يوجد هناك العديد من المكاتب الإعلامية. وكان صحفيون من وكالة الأنباء الفرنسية يهرعون بالفعل إلى خارج المبنى.
استيقظ صحفي آخر في مبنى الغفري ليكتشف أن الطويل قد غادر هو وصبح ونواجحة لتغطية القصف بالقرب من برج حجي. ونشر الطويل مقطع فيديو عن الغارة الإسرائيلية الوشيكة على صفحته على فيسبوك. وأرسل نواجحة صورة شخصية إلى زوجته وهو يرتدي سترته الواقية من الرصاص وخوذته.
وفي حوالي الساعة 2:25 صباحًا، وبينما كانا واقفين في انتظار الضربة على برج حجي، سقط صاروخ فوقهما مباشرة تقريبًا. ويُعتقد أن الطويل قُتل على الفور. وقالت أرملة صبح إنه عندما عثر عليه رجال الإنقاذ، وقيل لها إنه كان يرفع سبابته. قرأت أرملة نواجحة في البداية خبر وفاته على فيسبوك، لتكتشف لاحقًا أنه كان فاقدًا للوعي في البداية ولكنه لا يزال على قيد الحياة. وقد سحبه رجال الإنقاذ من تحت الأنقاض ونقلوه إلى مستشفى الشفاء القريب، حيث توفي هناك.
وفي وقت لاحق من اليوم نفسه، أعيدت السترات الواقية من الرصاص ذات اللون الأزرق الفاتح الملطخة بالدماء الجافة إلى دار الصحافة. ونشرت بليتسيا العقاد مقطع فيديو لهم على إنستغرام: "لا يهم إن كنت ترتديهما أم لا، فأنت تُقتل".
وأشارت الصحيفة إلى أن رواغ أخذ واحدة ووضعها فوق مكتب الاستقبال على مرأى ومسمع من الصحفيين الذين ما زالوا هناك. وقال "إنهم يأتون ليروا أن صديقهم قد قُتل. وعليهم أن يكونوا حذرين للغاية لأنهم قد يكونون هم التاليين".
11 تشرين الأول/ أكتوبر
أوضحت الصحيفة أنه سرعان ما خلت دار الصحافة من الصحفيين. فقد اختفى معظم الصحفيين بعد أيام قليلة، بعد أن قطعت غارة جوية إسرائيلية الإنترنت. والذين بقوا هم جاد الله، ورواغ، وأبو سيف، وزميل يوسف، أحمد فاطمة، وهو مصور مخلص لبيت الصحافة لدرجة أنه أصبح فعليًا مساعدًا متفرغًا لجاد الله، وموظف جديد هو محمد الجاجة، وهو شاب يتحدث الإنجليزية.
يصف أبو سيف في مذكراته كيف كانا يأتيان ويذهبان، ويغادران للاطمئنان على أفراد الأسرة القلقين، ويعودان من أجل مناوبة لمواكبة تغطية "سوا" للحرب. وفي بعض الأحيان، كانوا ينامون على المراتب الموضوعة بين المكاتب، محاطين بجدران من كابلات الحاسوب.
وأضافت الصحيفة أنه قُتل المزيد من الصحفيين، وقُصفوا في منازلهم أو في الميدان. وبدأ الجيش الإسرائيلي إصدار أوامر شاملة للمدنيين: تحركوا جنوبًا أو خاطروا باعتباركم إرهابيين. وتوجه سيل من اللاجئين إلى الجنوب، بعيدًا عن شمال غزة. لقد ذهب رواغ معهم، وكذلك فعل يوسف، محرر "سوا"، الذي خاف من فكرة أن يصاب وينقل إلى أحد مستشفيات غزة. لكن جاد الله اختار البقاء في مكانه. وقال لرواغ: "بيت الصحافة لا يزال مفتوحًا لأي صحفي محتاج".
6 تشرين الثاني/ نوفمبر
بعد مرور شهر تقريبًا على بداية الحرب، دُمّر منزل مدير جمع التبرعات الجاجة بعد شهر تقريبًا من بداية الحرب. لقد قُتل هو وزوجته وابنتاه. ويُظهر مقطع فيديو على فيسبوك الشقة المدمرة وقد تحولت السلالم في الردهة إلى منحدر من الخرسانة المنهارة. (وتم الإبلاغ عن الحادث على نطاق واسع على أنه هجوم إسرائيلي. وقال الجيش الإسرائيلي إنه لم يكن على علم بوقوع غارة على الموقع).
بعد أن تم انتشاله من تحت الأنقاض، وضع رجال الإنقاذ جثة الجاجة المكفنة على الأرض. ويظهره مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي ممددًا إلى جانب جثث بناته الصغيرات، وسترة بيت الصحافة وبطاقته الصحفية فوق جثته.
قبل اندلاع الحرب، كان من المقرر أن يلقي الجاجة محاضرة في مقر مجلس أوروبا في ستراسبورغ في ذلك اليوم عن أهمية الصحافة المستقلة. وبدلًا من ذلك، أعلن أحد المنظمين المصدومين عن مقتل الجاجة أمام المندوبين، وقد بدا صوته متصدعًا. كان جاد الله مذهولًا، لكنه كان صامدًا. وقال لبرزق: "سأواصل القيام بعملنا النبيل، كما اعتدت أن أفعل". وعلى فيسبوك، نشر أحمد فاطمة صورة لآخر رسالة على الواتساب أرسلها له الجاجة طلب فيها أن يعرف ما إذا كان هناك أي شخص قريب يبيع الخبز.
بعد أسبوع واحد، كان أحمد فاطمة قد مات هو الآخر. أخبرت زوجته الصحفيين أنه بينما كانوا مستلقين في الفراش، وقع انفجار على سطح بنايتهم. وأصابت قطعة من الشظايا، ربما من أحد الألواح الشمسية على السطح، ابنهما البالغ من العمر ست سنوات في وجهه. فحمله أحمد فاطمة إلى الخارج لنقله إلى العيادة.
اكتشفت لاحقًا أنه قطع نصف الطريق تقريبًا قبل أن تصيبه ضربة أخرى. وبشكل لا يصدق، نجا ابنه الذي أصيب بشظايا في ساقه. لقد كرر رواغ كلامه مثل الأسطوانة المشروخة: "سيد بلال، عليك الذهاب إلى الجنوب. عليك أن تأتي إلى هنا. الجميع بحاجة إليك. عليك أن تكون هنا معنا". يقول أولئك الذين تحدثوا إلى جاد الله في هذا الوقت تقريبًا إنه كان لا يزال يعارض الإخلاء، وأن ترك بيت الصحافة كان سيشعره وكأنه ترك صحفيي فلسطين وراءه.
لكن ثلاثة أشخاص وصفوا محادثات معه تشير إلى أنه بدأ يفكر في فنائه، فقد أسرّ إلى أبي سيف ذات يوم قائلاً: "لا أرى نفسي قادرًا على النجاة من هذا الأمر"، وجلس مع محمد سالم، المدير المالي السابق في بيت الصحافة، وسلمه مجموعة من المفاتيح وطلب منه أن يعده بأنه إذا قُتل، سيقوم سالم بأمرين: دفن جثته والاهتمام ببيت الصحافة.
19 تشرين الثاني/نوفمبر
أفادت الصحيفة بأن الجيش الإسرائيلي أمر المدنيين في منتصف شهر تشرين الثاني/ نوفمبر بمغادرة مدينة غزة عبر طريق آمن محدد، حيث تم نشر خريطة على موقع فيسبوك مع إبراز طريق سريع رئيسي باللون الأصفر، وأُعلن عن "تعليق تكتيكي مؤقت للأنشطة العسكرية" لمدة ست ساعات في منتصف ذلك اليوم. وبعد يومين، اتصل جاد الله بشقيقته وأخبرها أنه قرر المغادرة مع صهره عبد الكريم.
قررا أن يتجها شرقًا في البداية حتى يصلا إلى شارع صلاح الدين، وهو الطريق الرئيسي جنوب المدينة والطريق الآمن الذي حدده الجيش الإسرائيلي، ثم السير حوالي 3 أميال (5 كلم) حتى يصلا إلى دوار الكويت، ولم يكن مسموحًا للسيارات بالذهاب إلى أبعد من ذلك، لذا اضطر جاد الله أن يسير جنوبًا لمسافة 3 أميال أخرى، وكان ذلك سيوصله إلى نقطة تفتيش الوادي، المحطة الأخيرة في الطريق إلى مخيمات اللاجئين. حيث كانت عائلته في انتظاره. لكنهم وصلوا حتى شارع صلاح الدين.
ليس من الواضح ما الذي حدث بالضبط، وربما لن يكون واضحًا أبدًا، فوفقًا لأحد الشهود، جاءت قذيفة دبابة من الشرق وسقطت على بعد أمتار قليلة من سيارة الكيا التي كانوا يقودونها. (سمع الشاهد القذيفة فقط ولم يرها، لكنه يصر على أنه تعرف على الصوت، وهو مصرّ أيضًا على أنه لم يكن هناك إطلاق نار، ويبدو أن الصور الفوتوغرافية لسيارة الكيا تؤكد شهادته حيث قال فني أسلحة سابق في الجيش الأمريكي إن النتوءات الصغيرة المتناثرة في هيكلها تشبه انفجار شظايا قذيفة دبابة إسرائيلية).
وأوضحت الصحيفة أن السيارة توقفت بالقرب من مسجد، فهرع الشاهد وفتح الباب، وقال إن جاد الله كان لا يزال يتنفس، وكانت قطعة من الشظايا مغروسة في مؤخرة رأسه.
سحب جاد الله إلى سيارة قريبة ساعيًا للحصول على مساعدة، وكانت أول عيادة حاول الوصول إليها مغلقة، بعد ذلك توجه إلى المستشفى الأهلي القريب، لكن الطبيب الوحيد هناك كان يتعامل مع 20 إصابة أخرى. واقترح عليه أحد المارة أن يجرب عيادة الصحابة حيث كانت لا تزال تستقبل المرضى. لكن بحلول الوقت الذي وصلوا فيه إلى هناك كان الأوان قد فات الأوان. فبعد وقت قصير من وصولهم، توفي جاد الله.
حتى بعد مرور سبعة أشهر، يتحدث معظم من عرفوا جاد الله عن موته دون تصديق ما حدث. قال سالم: "ركضت كالمجنون. أين هو؟ كان عليّ أن أعرف أين هو، لأوفي بطلبه وأدفنه"، وقال رواغ إنه ظن أن أحد أصدقائه كان يمزح عندما اتصل به وأخبره بالخبر، انهار عندما اكتشف أن الأمر كان صحيحًا.
يصف آخرون حزن فقدان معلم أو صديق. يقول يوسف: "زوجتي هي أكثر من يعرف كم انهرت وكم عانيت". وأضاف: "صعدت الدرج وجلست بمفردي وبكيت. كيف يجرؤ الموت على أخذ مثل هذا الرجل! كيف يجرؤ مثل عمل خسيس كهذه الحرب أن يأخذ مثل هذا الرجل الكريم!".
كانت العقاد تنتظر فرصة للتباهي أمام جاد الله: "انظر إلى عدد المتابعين لدي! انظر إلى العمل الذي قمت به!". لأنه كان معي في رحلة الصحافة منذ البداية". ومن جهته، اكتشف يوهانسن وفاة جاد الله عندما رأى الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي، وقال: "إنها خسارة كبيرة، خسارة شخصية لمكتب التمثيل النرويجي، ولكنها أيضًا خسارة كبيرة لفلسطين".
20 تشرين الثاني/نوفمبر
أوضحت الصحيفة أن الحرب استمرت في التهام بيت الصحافة والصحفيين الذين كانوا يعتمدون عليه بعد مقتل جاد الله. ففي 1 كانون الأول/ديسمبر، قُتل منتصر الصواف البالغ من العمر 33 سنة، وهو مصور في وكالة الأناضول التركية للأنباء، وشقيقه مروان عندما أصابت غارة جوية إسرائيلية منزلهما. وفي 28 كانون الأول/ ديسمبر، قُصف أحمد خير الدين في منزله. وقُتل محمد ياغي، وهو مصور فوتوغرافي يبلغ من العمر 29 سنة، مع 36 من أقاربه في 23 شباط/فبراير في غارة جوية في حي الزوايدة.
عاد أبو سيف إلى منزله في الضفة الغربية، وغادرت العقاد غزة وهي تعيش الآن في ملبورن في أستراليا، وتواصل النشر على الإنترنت. أما رواغ، الذي يعتقد أن الإسرائيليين يستهدفون صحفيي بيت الصحافة عمدًا، فيرفض اللجوء مع عائلته، وينام اليوم في خيمة خارج مستشفى الأقصى. ذهب سالم، المدير المالي، إلى عيادة الصحابة حيث أكدوا له أن جثمان جاد الله قد تم استلامه ودفنه، ثم انتقل مع زوجته وأطفاله إلى بيت الصحافة المهجور.
أفادت الصحيفة بأن تأثير الانفجارات القريبة أدى إلى انهيار ألواح السقف، وتناثرت أجهزة الحاسوب المحمولة والكاميرات في المبنى، وغطى الغبار كل مكان. وقرب نهاية شهر كانون الثاني/يناير، قال سالم إن الدبابات والجنود العاملين في حي الرمال بدأوا إطلاق الرصاص والقذائف على المبنى، وقال: "كانوا يستهدفون بيت الصحافة بنسبة 100 بالمئة".
ولمدة ثلاثة أيام، ظل هو وعائلته مختبئين في المبنى. (تظهر صور الأقمار الصناعية آثار الدبابات على الطرق المجاورة للمبنى، ويمكن رؤية ثلاثة مستودعات مؤقتة للمركبات المدرعة الإسرائيلية في دائرة نصف قطرها 500 متر، ولا تظهر الصور معلومات مفصلة عن العمليات). وفي صباح اليوم الرابع أدرك أن الدبابات قد اختفت، وقال: "كان الوضع هادئًا، لم يكن هناك إطلاق نار، لم يكن هناك أي شيء، حزمنا حقائبنا وأخذتها ثم أغلقت الأبواب".
استمرت الحرب لمدة 262 يومًا من 7 تشرين الأول/أكتوبر، وقال متحدث باسم الجيش الإسرائيلي: "إن الرواية القائلة إن الجيش الإسرائيلي يستهدف الصحفيين عمدًا لا أساس لها من الصحة تمامًا، وهي خاطئة من الأساس". وأضافوا أن "المدنيين الذين يتعرضون للأذى، بما في ذلك الصحفيون الذين يتعرضون للأذى في أثناء النزاع، يشكلون مأساة رهيبة، هذه المأساة سببها أن حماس تعمدت الاندساس بين السكان المدنيين". وأكدوا: "لم يستهدف الجيش الإسرائيلي بلال جاد الله بشكل متعمد"، ورجحوا أن يكون قد قُتل بنيران حماس.
10 شباط/فبراير
في حوالي الساعة السادسة صباحًا بعد أكثر من أسبوع بقليل من فراره هو وعائلته، استقل سالم دراجة هوائية، وعاد إلى المكان الذي كان موقع بيت الصحافة سابقًا. كان المبنى قد هُدم بالكامل، وحلت مكانه كومة من الأنقاض، وكانت شجرة بلا أوراق تبرز بشكل مفكك من الشقوق بين قطع البناء المحطمة. أخرج سالم هاتفه وبدأ في التصوير بصمت، وتسلق الحطام ملتقطًا صورًا لما حدث، لم يكن بالإمكان رؤية أي كاميرات أو أجهزة حاسوب أو دفاتر بين الحطام. ومثل أشجار الزيتون، كانت أجهزة الراديو العتيقة وجميع الآثار الأخرى لرؤية جاد الله للصحافة الفلسطينية مدفونة تحت الأنقاض.