بعد جدل شعبي واسع في
مصر، إثر قرارات حكومية بخفض الدعم على الوقود الخميس الماضي، أقر المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي أمس الاثنين، المراجعة الثالثة لبرنامج القرض الموسع البالغة قيمته 8 مليارات دولار لمصر.
ذلك الإقرار، يمهد الطريق أمام حكومة رئيس النظام عبدالفتاح السيسي، لتلقي الشريحة الثالثة من القرض والبالغة قيمتها 820 مليون دولار، والحصول أيضا على قرض بقيمة 1.2 مليار دولار من مخصصات صندوق "الصلابة والمرونة".
لكن، بحسب الجدول الزمني لبرنامج القرض، يتبقى لمصر، خلال العام الجاري، مراجعة في أيلول/ سبتمبر المقبل، تليها دفعة بقيمة 1.3 مليار دولار، فيما من المقرر أن تسدد القاهرة للصندوق، في آب/ أغسطس المقبل، وحتى نهاية العام، نحو 3.147 مليار دولار مستحقة عن أقساط وفوائد لقروض سابقة بالإضافة لبعض الرسوم.
"اشتراطات قاسية تطال الفقراء"
وكان قد سبق ذلك الإقرار ضجة واسعة بتأجيل الصندوق المراجعة لنحو 20 يوما، ثم عدم إدراج اسم مصر بجدوله الجديد، ثم إدراجها لاحقا بموعد الاثنين، ما أثار الحديث عن إصرار الصندوق على تنفيذ اشتراطاته، والتي نفذت إحداها سريعا الحكومة المصرية برفع أسعار الوقود، الخميس الماضي، بجانب الحديث عن زيادة مؤكدة بأسعار شرائح الكهرباء.
وهي القرارات التي يدافع عنها
صندوق النقد الدولي بشدة، ويدفع الحكومة المصرية بقوة لتنفيذها، رغم تأثيرها السلبي على ملايين المصريين، حيث قالت نائب المدير العام لصندوق النقد الدولي أنطوانيت السايح، الثلاثاء، إن "رفع أسعار الوقود قرب مستوياتها حتى نهاية 2025، يسهم فى توفير الطاقة بشكل سلسل".
بل إن رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، إيفانا فلادكوفا هولا، قالت الثلاثاء، إنه يتعين على مصر تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار من كافة القيود، ما يرعب المصريين من قرارات تعويم جديدة محتملة، تزيد من معاناتهم.
وهذا ما دفع البعض للتخوف مما هو قادم بحقهم من قرارات رفع الأسعار، مشيرين إلى أن الصندوق لم يمرر الشريحة الثالثة إلا برفع أسعار الوقود، متوقعين حدوث موجة غلاء ورفع أسعار أقسى وأشد مع باقي الشرائح الخمسة المتبقية من القرض، والمقررة كل منها بـ1.3مليار دولار، آخرها في أيلول/ سبتمبر 2026.
"ماذا عن إمبراطورية الجيش؟"
لكن اللافت في المقابل، أن الصندوق الذي شدد، في بيانه، على ضرورة تسريع برنامج التخارج من شركات مملوكة للدولة، وتنفيذ إصلاحات لمنعها من استخدام ممارسات تنافسية غير عادلة، وفقا لوثيقة "ملكية الدولة" الصادرة عام 2022، لم يذكر صراحة الشركات التابعة للجيش في تلك الحزمة من التعليمات، رغم تأكيده في مرات سابقة على ضرورة تخارج المؤسسة العسكرية من بعض الأنشطة.
وبرغم عرض الجيش لاثنتين من شركاته للبيع أو الطرح أمام مستثمرين استراتيجيين، وهما "وطنية"، و"صافي"، قبل سنوات تنفيذا لمطلب الصندوق، إلا أن هذا الملف لم يتم اتخاذ أية خطوات فعلية فيه على الأرض.
وفي المقابل، جرى الإعلان الثلاثاء، عن قرار الحكومة المصرية بتصفية الشركة المصرية للإنشاءات المعدنية "ميتالكو"، التابعة لقطاع الأعمال الحكومي، والتي يرجع تاريخ إنشائها لعام 1968، كشركة متخصصة في تصميم وتصنيع وتركيب كافة أنواع الإنشاءات المعدنية، لتصبح أكبر شركة معادن في الشرق الأوسط.
"هدف الحكومة.. المال والتصنيف والاقتراض مجددا"
وبمجرد إعلان صندوق النقد تمرير المراجعة الثالثة لقرض المليارات الثمانية والإفراج عن مبلغ الشريحة توالت تصريحات المسؤولين المصريين التي تشيد بما حققوه من إنجازات، والقول إن المالية العامة للدولة أظهرت تماسكا ومرونة في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية والإقليمية.
رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، وخلال اجتماع الحكومة الأسبوعي من مقر حكومته الصيفي بمدينة العلمين الجديدة، أبدى سعادته بالقرار، واعتبره بمثابة شهادة ثقة ببرنامج حكومته، وهو ذات الحديث الذي أكد عليه وزير المالية الجديد أحمد كجوك، مشيدا بما وصفه "شهادة الثقة"، و"رسالة الطمأنة".
وكشف مراقبون، أن هدف حكومة القاهرة، بجانب الحصول على مبلغ 820 مليار دولار، ومبلغ 1.2 مليار أخرى، هو الظهور أمام وكالات التصنيف الدولية للحصول على تصنيفات ائتمانية أعلى، ما يسهل الحصول على قروض جديدة، وفق مراقبين.
وأشاروا إلى احتمال أن يتبع ذلك الإقرار للمراجعة الثالثة من قبل الصندوق رفع وكالات التصنيف الائتماني مثل "موديز" تصنيف مصر في الأسواق، من (Caa1) إلى B3)) مع نظرة ايجابية.
وتعيش حكومات السيسي، منذ العام 2013، على الدعم والإعانات الخارجية، وتبنت سياسة الاقتراض الخارجي من صندوق النقد الدولي منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2016، مع القرض الأول من الصندوق البالغ 12 مليار دولار، لتكرر الأمر في أعوام 2020 و2022 و2023، لتصبح ثاني أكبر مقترض من الصندوق، بعد الأرجنتين.
لكنها في المقابل، اعتمدت سياسة تقليص دعم الوقود بأنواعه، وزيادة أسعار شرائح الكهرباء، مع رفع أسعار جميع الخدمات الحكومية بشكل متواصل، وسط زيادة نسب التضخم، وتضاعف عدد الفقراء، وتآكل الطبقة الوسطى، وعجز أكثر من 106 ملايين مصري عن توفير المتطلبات الأساسية.
ورسميا، ارتفعت معدلات الفقر من 26.3 بالمئة عام 2013 إلى 27.8 بالمئة في 2015، ثم إلى 29.7 بالمئة عام 2020 وحتى 32.5 بالمئة عام 2022، وهي الأرقام التي يعتبرها اقتصاديون أقل بكثير من الحقيقة، فيما كان البنك الدولي قد أكد في أيار/ مايو 2019، أن 60 بالمئة من المصريين إما فقراء أو أكثر احتياجا.
ومع دين خارجي سجل 153.86 مليار دولار نهاية أيار/ مايو الماضي، تواجه حكومة القاهرة أزمة سداد استحقاقات مالية ضخمة، تبلغ أكثر من 60 مليار دولار بالفترة من 2025 إلى 2027، فيما يتوجب سداد آخر دفعة ديون خارجية متوسطة وطويلة الأجل بالنصف الثاني من عام 2071، وذلك حال عدم حصول مصر على قروض جديدة.
"طرح مع وقف التنفيذ"
وإزاء هذا الوضع المزري، وفي طريقها لسد فجوة تمويل قدرها صندوق النقد الدولي بنحو 17 مليار دولار، أعلنت مصر في آذار/ مارس 2023، طرح 32 شركة عامة بالبورصة وأمام مستثمرين استراتيجيين، كان من بينها شركتين تابعتين للجيش، فقط هما "وطنية"، و"صافي"، وذلك برغم امتلاك جهاز مشروعات الخدمة الوطنية وحده نحو 30 شركة تعمل بقطاعات مواد البناء والمواد الغذائية، والتعدين، والبتروكيماويات.
بل إنه وإثر إقرار صندوق النقد الدولي برنامج قرض بقيمة 3 مليارات دولار لمصر، نهاية 2022، طالب الصندوق بتخارج سريع للجيش من الاقتصاد لصالح القطاع الخاص.
وهو ما تبعه إعلان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، في نيسان/ أبريل 2023، أن القوات المسلحة المصرية وافقت على زيادة عدد الشركات التابعة لها والمقرر طرحها بالبورصة أو للبيع إلى مستثمرين استراتيجيين، إلى 10 شركات بجانب الطرح السابق لشركتين تابعتين للمؤسسة العسكرية.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يجري فيها الحديث عن طرح هذا العدد من شركات الجيش، إذ أنه وفي كانون الأول/ ديسمبر 2020، أعلن الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي، اختيار 3 شركات تابعة لوزارة الدفاع لإدراجها بالبورصة الربع الأول من عام 2021، مشيرا لخطة بيع 100 بالمئة من أسهم 10 شركات يمتلكها الجيش.
ومع تباطؤ الحكومة المصرية في تنفيذ مطلب الصندوق، طرحت العديد من التقارير الصحفية الأجنبية التساؤلات حول قدرة السيسي على تقليل نفوذ الجيش الاقتصادي، وعن مدى تفريط الجيش في مصالحه، ومنها ما طرحته "فاينانشيال تايمز" 9 نيسان/ أبريل 2022.
كذلك مع إقرار صندوق النقد الدولي رفع قيمة برنامج تمويله لمصر من 3 إلى 8 مليارات دولار في آذار/ مارس الماضي، أعاد رئيس الوزراء المصري الحديث عن بدء إجراءات طرح شركتي "وطنية" و"صافي"، وهو الملف الذي لم يظهر عنه جديدا حتى الشهر الجاري.
بل إن الأنباء التي تواترت عن الشركتين تحدثت عن اقتراب شركات إماراتية من شراء حصص لا تقل عن 20 بالمئة إلى 25 بالمئة "وطنية"، و"صافي"، بينما كان الحديث في البداية عن بيع كامل لأسهم الشركتين.
"لن يفرط بقوته"
وفي إجابته على سؤال "عربي21": لماذا تنفذ حكومة السيسي اشتراطات الصندوق بحق دعم الفقراء، وتتجاهل ملف تخارج الجيش من الاقتصاد؟، قال رئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي الدكتور أشرف دوابه: إن "القوة الاقتصادية الأكبر في مصر بين يدي شركات المؤسسة العسكرية المصرية".
وأوضح أنه "لا يمكن للجيش أن يفرط في هذه القوة بسهولة أو بصورة من الصور".
ويرى أنه "حتى ولو تم التفريط في إحدى أصول الشركات التابعة للامبراطورية الاقتصادية للجيش سيكون تفريطا بصورة شكلية وغير حقيقي".
ويعتقد الأكاديمي المصري ورئيس التمويل والاقتصاد بجامعة "اسطنبول"، أن "ما يحدث من الحكومة المصرية حاليا وتنفيذ باقي اشتراطات الصندوق المتعلقة بتقليص فاتورة الدعم هو نوع من أنواع إرضاء الصندوق بأمور بعيدة عن القوة الاقتصادية الخاصة، بالجيش",
حصة المؤسسة العسكرية في الاقتصاد المصري واسعة، وتتمثل في إنتاج أهم السلع كالحديد والأسمنت ومواد البناء والمحاجر، والسلع الاستهلاكية المعمرة، والملابس، والمواد الغذائية، والمشروبات، والتبغ، والسيارات وقطع الغيار، والبيع بالتجزئة، والإعلام والترفيه، وأشباه الموصلات ومعدات أنظمة النقل الذكية، والمعدات الصلبة والتجهيزات التكنولوجية.
"ليس مؤسسة مهنية محايدة"
وفي قراءته، قال الباحث والخبير الاقتصادي المصري عبدالحافظ الصاوي، في حديثه لـ"عربي21"، إن "العلاقة بين مصر وصندوق النقد الدولي، يجب أن يُنظر إليها من أكثر من جانب".
الصاوي، أكد أولا أنه "من الخطأ أن يُنظر للصندوق على أنه مؤسسة مالية اقتصادية مهنية محايدة، وأنه لا علاقة لها بالسياسة".
وأوضح أن "هذا مفهوم خاطئ"، مبينا أن "تلك المؤسسة الدولية في دورها الأول يتحكم فيها أمريكا وأوربا، ويتم توظيف النواحي الاقتصادية المالية بالصندوق بما يخدم أهداف وأجندات سياسية معينة".
وقال: "هنا لابد أن نشير إلى نقطتين الأولى: الدور الذي تؤديه مصر في التضييق على المقاومة الفلسطينية في مواجهتها في حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني، وما تم في معبر رفح وإعادة احتلاله، والتجاوزات الإسرائيلية كلها لا تحتاج هنا إلى دليل".
ولفت إلى أن "الأمر الثاني: دور اللاعبين الإقليميين المؤيدين للنظام المصري منذ العام 2013، كالسعودية والإمارات وحرصهما على بقاء النظام الحالي في الحكم متمثلا في السيسي والجيش، وهذا ما كان واضحا منذ الانقلاب".
وألمح إلى أن "أبوظبي والرياض اشترطتا بأن يقوم الجيش بعمل المشروعات التي تجري من مساعداتهما المقدمة للنظام"، معتقدا أن "هذا كان بداية لتوسع وتغول الجيش في الحياة الاقتصادية"، مؤكدا أنها "نقطة يجب أخذها في الاعتبار".
الخبير المصري، أوضح أنه "وبالتالي فإن مسألة نظرة صندوق النقد الدولي لاقتصاد الجيش، ولملفات مثل الفساد الحكومي والإداري وسوء الإدارة يتم التغاضي عنها، مقابل الرضا بما هو موجود في إطار دور مصر في معبر رفح، وفي إطار ما تمارسه القوى الإقليمية الأخرى من ضغوط".
الصاوي، أضاف: "وإذا ما انتقلنا إلى الجانب الفني والاقتصادي والمالي، فإن الحكومة المصرية في موقف ضعيف بالطبع، ولم تستفيد على مدار 14 سنة من إعادة وتأهيل الأجندة الخاصة بالتنمية في مصر".
وتابع: "وعلى الرغم من أن معظم الاقتصاديين قالوا إن التوجه الذي تتبناه مصر يعد سيرا في الاتجاه الخطأ إلا أن الحكومة تصر عليه، وتتغاضى عن أية إصلاحات يمكن تؤدي إلى تحسن مالي وتنموي".
وأشار إلى أن "الكثير من الاقتصاديين مصرين وغير مصريين معارضين ومؤيدين تحدثوا طويلا عن
اقتصاد الجيش في مصر؛ لكنه للأسف الشديد في الوقت الذي تقوم فيه الحكومة بتنفيذ أجندة الصندوق بالتخارج والتصفية لشركاتها العامة يتوسع الجيش في المقابل في مشروعات تتعلق بالجانب المدني".
وخلص للقول: "إذا نحن أمام حالة مزدوجة من التوصيف السياسي الخاطئ".
وختم حديثه مشيرا إلى ما اعتبره "نقطة أخيرة تتعلق بمفهوم صندوق النقد الدولي لعملية الإصلاح المالي والنقدي والاقتصادي، والتي تتمثل في أنه يصل لحالة من التحسن في عجز الموازنة وفي ميزان المدفوعات؛ بغض النظر عن كيفية تحقق تلك الحالة، وهي غالبا ما تكون حالة رقمية بعيدة عن حقائق الأمور".