في
أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، انتاب
أوروبا شعور بالإلحاح على فطام نفسها عن
النفط والغاز الروسيين، وصرخت العناوين الرئيسية بتحول وشيك في سياسات
الطاقة، مع
تصريحات جريئة من جانب الزعماء الأوروبيين حول الحد من الاعتماد على الطاقة
الروسية بحلول عام 2027، ولكن بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات، أصبحت القصة أكثر
تعقيدا. فبعيدا عن الخطاب، فإن قدرة أوروبا على إغلاق صنبور الطاقة الروسية
محدودة. وهذه ليست مجرد قصة خطوط أنابيب
الغاز ومحطات الغاز الطبيعي المسال؛ إنها
قصة جيوسياسية، واقتصادية، وإدراك عميق لحقيقة مفادها أن استقلال أوروبا في مجال
الطاقة هو في أفضل الأحوال حلم بعيد المنال.
إغراء
الغاز الروسي: حقيقة مزعجة للولايات المتحدة وأوروبا
لعقود
من الزمان، كان المحرك الاقتصادي لأوروبا يتغذى على النفط والغاز الروسيين. هناك
سبب عملي لهذا الاعتماد، فالغاز الروسي، الذي يتم نقله مباشرة إلى قلب أوروبا من
خلال شبكات واسعة مثل نورد ستريم، ليس ميسور التكلفة فحسب، بل إنه سهل بشكل لا
يصدق. وقد أملَت الجغرافيا أن الغاز الروسي، الذي يتم نقله عبر خطوط الأنابيب
الممتدة عبر القارة، يكلف أقل من الغاز الطبيعي المسال الذي يتم شحنه من شواطئ
بعيدة. وكانت النهضة الصناعية الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، مبنية بشكل
كبير على هذا الأساس من الطاقة الرخيصة والموثوقة.
الحرب في أوكرانيا حطمت هذا الترتيب المريح، أو على الأقل الوهم باستدامته. وتعهدت أوروبا، مدفوعة من الولايات المتحدة، بالتحرر من قيود الطاقة الروسية. ولكن الواقع على الأرض يروي قصة مختلفة
ولكن
الحرب في أوكرانيا حطمت هذا الترتيب المريح، أو على الأقل الوهم باستدامته. وتعهدت
أوروبا، مدفوعة من الولايات المتحدة، بالتحرر من قيود الطاقة الروسية. ولكن الواقع
على الأرض يروي قصة مختلفة.
سراب
الاستقلال في مجال الطاقة: حلم أوروبي
هناك
خلل أساسي في الحجة القائلة بأن أوروبا قادرة على استبدال الطاقة الروسية بسرعة،
فأوروبا ليس لديها نظام أو سياسة طاقة موحدة، والاتحاد الأوروبي عبارة عن مجموعة
من 27 دولة عضو، ولكل منها احتياجاتها الخاصة من الطاقة والبنية الأساسية
والأولويات السياسية. إن فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها من اللاعبين
الرئيسيين يواجهون جميعا تحديات فريدة من نوعها ولا يسيرون في خطى متناغمة. إن هذا
الافتقار إلى الوحدة ليس مجرد نزوة بيروقراطية، بل هو نقطة ضعف حرجة.
خذ
فرنسا على سبيل المثال، فعلى الرغم من كونها مناصرة صريحة لخفض واردات الغاز
الروسي، فإن واردات فرنسا من الغاز الطبيعي المسال الروسي تضاعفت في النصف الأول
من هذا العام مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. وكما أفاد معهد انتقال الطاقة
المتجددة وتتبع الطاقة، استوردت فرنسا حوالي 4.4 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي
المسال من
روسيا خلال هذه الفترة.
إن
حالة فرنسا توضح مشكلة أوروبية أوسع نطاقا وهي العقود القائمة وجمود عقود من
الاعتماد. ولكن لماذا لا تستطيع أوروبا ببساطة أن تلجأ إلى موردين آخرين؟ الجواب
أكثر تعقيدا مما يوحي به الخطاب، فمن الناحية النظرية، تستطيع أوروبا أن تزيد من
وارداتها من الشرق الأوسط وأفريقيا والولايات المتحدة، ولكن هذه الاستراتيجية
محفوفة بالمخاطر الجيوسياسية والكوابيس اللوجستية.
على
سبيل المثال، يتطلب تأمين الغاز الطبيعي المسال من الشرق الأوسط التنقل عبر شبكة
معقدة من الصراعات الإقليمية والتحالفات السياسية. فقد استهدف الحوثيون في اليمن،
الذين تحالفوا ضد المصالح الغربية المناصرة للإبادة الجماعية للكيان الصهيوني ضد
شعب غزة، مؤخرا طرق الشحن، وقد جعلت هذه الحوادث من ضمان إمدادات الغاز الثابتة من
الشرق الأوسط أمرا محفوفا بالمخاطر بشكل متزايد ومستحيلا تقريبا. إن فكرة أن
أوروبا تستطيع ببساطة أن تتحول إلى الغاز من الشرق الأوسط تتجاهل الديناميكيات
المتقلبة في المنطقة وضعف طرق الإمداد البحرية.
مع استمرار الصراع، أصبحت فعالية العقوبات موضع تساؤل متزايد، حيث جاءت العقوبات بمثابة نتائج عكسية بطرق غير متوقعة. فقد اضطرت أوروبا إلى مواجهة ضعفها في مجال الطاقة، وكانت العواقب غير المقصودة وخيمة، وهي ارتفاع أسعار الطاقة، والتضخم، والاضطرابات الاجتماعية في مدن أوروبية مختلفة
وماذا
عن الغاز الطبيعي المسال الأمريكي؟ لقد زادت الولايات المتحدة من صادراتها إلى
أوروبا، ولكن هذا الغاز الطبيعي المسال يأتي بسعر أعلى. إن عملية تسييل الغاز
الطبيعي وشحنه وإعادة تحويله إلى غاز أكثر تكلفة بشكل ملحوظ من النقل المباشر
نسبيا للغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب. وفي حين أن الولايات المتحدة حريصة على ملء
الفراغ الذي خلفته روسيا، فإن التكاليف الأعلى تترجم في نهاية المطاف إلى ارتفاع
أسعار الطاقة بالنسبة للمستهلكين والشركات الأوروبية، وهو أمر غير مستساغ سياسيا
ومزعزع للاستقرار اقتصاديا.
معضلة
العقوبات: أدوات غير فعّالة في عالم معقد
كانت
العقوبات الاقتصادية هي الاستراتيجية التي لجأت إليها أوروبا لمعاقبة روسيا بحسب
منظورهم، ولكن مع استمرار الصراع، أصبحت فعالية العقوبات موضع تساؤل متزايد، حيث
جاءت العقوبات بمثابة نتائج عكسية بطرق غير متوقعة. فقد اضطرت أوروبا إلى مواجهة
ضعفها في مجال الطاقة، وكانت العواقب غير المقصودة وخيمة، وهي ارتفاع أسعار
الطاقة، والتضخم، والاضطرابات الاجتماعية في مدن أوروبية مختلفة.
هناك
إدراك متزايد بين بعض القادة والمحللين الأوروبيين بأن سلاح العقوبات الاقتصادية
قد يكون غير مباشر، وقد عفا عليه الزمن، بل وحتى غير منتج. ففي عالم معولم
ومترابط، غالبا ما تكون آثار العقوبات منتشرة ومتأخرة ومخففة بسبب الشبكات المالية
والتجارية الدولية المعقدة. إن الأمل في أن تعمل العقوبات كحل سحري كان دوما وهما
أوروبيا وأمريكيا.
دعوة
إلى البراغماتية: الحوار بدلا من العقوبات؟
في ظل
المستنقع الحالي، تدعو مجموعة متنامية من الأصوات إلى نهج جديد، نهج لا يقوم على الحسابات
الباردة للعقوبات، بل على المنطق الأكثر دفئا للحوار والتسوية. والفكرة ليست
التخلي عن المبادئ، بل الاعتراف بحدود التدابير العقابية في عالم مترابط إلى حد
كبير.
ثبت أن حلم الاستقلال السريع في مجال الطاقة عن روسيا أقرب إلى السراب منه إلى مسار واضح للمضي قدما. ورغم أن أهداف التنويع وتوسيع الطاقة المتجددة وإعادة التنظيم الجيوسياسي نبيلة وضرورية، فإنها لا بد أن ترتكز على حقائق اقتصادية وسياسية
ويزعم
أنصار هذا النهج أن أوروبا لا بد أن تنخرط مع روسيا في حوار براغماتي، يركز على
الحد من التهديدات الأمنية المتبادلة وإيجاد أرضية مشتركة. وهذه ليست دعوة ساذجة
إلى الاسترضاء، بل تقييما واقعيا للمشهد الجيوسياسي. فروسيا تشكل واقعا جغرافيا
واقتصاديا دائما بالنسبة لأوروبا، ويتعين على القارة أن تتعلم كيف تتعايش مع هذا
الواقع، ليس من خلال المواجهة المستمرة، بل من خلال التعايش المنظم.
الطريق
إلى الأمام: بين المثالية والواقعية
إن
أوروبا تقف عند مفترق طرق، لقد ثبت أن حلم الاستقلال السريع في مجال الطاقة عن
روسيا أقرب إلى السراب منه إلى مسار واضح للمضي قدما. ورغم أن أهداف التنويع
وتوسيع الطاقة المتجددة وإعادة التنظيم الجيوسياسي نبيلة وضرورية، فإنها لا بد أن
ترتكز على حقائق اقتصادية وسياسية.
إن
الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى استراتيجية أكثر دقة تعترف بحدود العقوبات، وتعقيدات
أسواق الطاقة العالمية، وقيمة الحوار الاستراتيجي. لقد حان الوقت لكي تمزج أوروبا
بين المثالية والواقعية، والرؤية والبراغماتية. إن الاستقلال في مجال الطاقة طموح
جدير بالاهتمام، ولكنه يتطلب التخطيط الدقيق والاستثمار الكبير، والأهم من ذلك
كله، يتطلب نهجا موحدا يتجاوز المصالح الوطنية والمكاسب السياسية القصيرة الأجل.
إن
الوهم المتمثل في الاستغناء عن النفط والغاز الروسيين قد يظل مجرد وهْم؛ ما لم
تواجه أوروبا تناقضاتها الخاصة وتتبنى استراتيجية أكثر توازنا وشاملا في مجال
الطاقة والسياسة الخارجية. إن الرحلة إلى الاستقلال الحقيقي في مجال الطاقة أشبه
بماراثون، وليس سباقا قصيرا، وقد حان الوقت لكي تستعد أوروبا للمسيرة الطويلة.