أفكَار

الحرب على غزة والوجود الإسلامي في الغرب.. هل هو صدام الحضارات؟

أفرزت الحرب على غزة حالة من الوعي القانوني على نطاق دولي واسع تسبّب في إحراج الحكومات الغربية المساندة لإسرائيل وكشف سياسة ازدواجية المعايير التي تمارسها.
عندما صدر كتاب "صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي" للأمريكي صامويل هنتغتون في تسعينيات القرن الماضي عقب انهيار جدار برلين، والذي استشرف فيه طبيعة الصراعات القادمة بعد نهاية الحرب الباردة، حيث ستكون في نظره صراعات ذات طابع ثقافي وحضاري بالأساس، لكون الثقافة أو الهوية الثقافية، وفي أوسع معانيها الهوية الحضارية، هي التي تشكل نماذج التماسك والتفكك والصراع، انبرت أصوات عدة للرد على هذه الأطروحة التي تعتبرها تبسيطية ولاواقعية وتدعو للفوضى والتشاؤم، وبرزت أصوات أخرى تدعو إلى رفضها ونقضها معتبرة أن المستقبل بين الحضارات هو الحوار والتعايش، وأن الثقافات لا تتصارع، وإنما تتحاور وتتفاعل حيث إن الصراع فضلا عن الصدام يكون نذيرًا بانهيار الحضارة نفسها. وقد أدت هذه الانتقادات إلى حالة من التراجع والكمون لهذه النظرية بعد أن ذاع صيتها وراجت بشكل واسع في الأوساط الفكرية والعلمية في مجمل الدول الغربية خصوصا.

ولكن ما حدث منذ السابع من أكتوبر في العام الماضي (2023) في منطقة الشرق الأوسط وتحديدا في غزة من حرب لا متكافئة وإبادة جماعية متواصلة باعتراف الأمم المتحدة وتحالف غربي واسع ومكشوف دون هوادة، من شأنه أن يسهم في إسعاف تلك النظرية التي كشفت حقيقة الصراع الذي تخوضه الدول الغربية وراء إسرائيل التي لا يستنكف قادتها على توصيفه بكونه صراعا حضاريا بين الغرب والشرق أو بين الحضارة الغربية اليهودية ـ المسيحية والإسلام باعتباره العدو الأول والمنازع الرئيسي لثقافتها وقيمها العالمية. فهي ليست حرب إسرائيلية كما يبدو ظاهريا وإنما هي حرب الحضارة الغربية المصطفة بالكامل وراء إسرائيل لسحق المقاومة وإسناداتها التي هي في الحقيقة مقاومة لنموذجها الثقافي وقيمها التي تسوقها في العالم.

واليوم وبعد مرور عام كامل على اندلاع هذه الحرب غير التقليدية دون التوصل إلى تحقيق الأهداف الكبرى التي رسمت لها من قبل إسرائيل والدول الغربية المشاركة في العدوان، إلى جانب امتدادها لتشمل أقاليم أخرى بدءا بالضفة الغربية واليمن ولبنان، وهي مرشحة للمزيد من الاتساع، يجدر التوقف عند تداعيات هذه الحرب على العلاقة بين الغرب والإسلام وبالأخص على مستقبل الوجود الإسلامي في الغرب الذي يواجه منذ فترة تحديات نوعية جديدة بدأت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وتعمقت بشكل أكبر مع معركة طوفان الأقصى والحرب الراهنة على غزة. 

المراحل التي مر بها الوجود الإسلامي في الغرب:

تاريخيا يمكن رصد ثلاث مراحل أساسية مر بها الوجود الإسلامي في الغرب وانعكست تأثيراتها على طبيعة العلاقة بين الإسلام والحضارة الغربية:

ـ الأولى هي مرحلة الصراع بدءا بالحروب الصليبية ومرورا بالفتح الإسلامي لأجزاء واسعة من القارة الأوروبية وهيمنة الخلافة العثمانية على بلاد شرق أوروبا والبلقان وانتهاء بحلقة الاستعمار الغربي لبلدان عديدة من العالم الإسلامي.

يواجه الوجود الإسلامي في الغرب ضغوطا متزايدة وملاحقة فكرية وثقافية متواصلة تمس من ثوابت هويتهم الدينية وانتمائهم الثقافي مما يتطلب منهم جهودا مضنية ومستدامة للتصدي لتلك الضغوط والإكراهات.
ـ الثانية يمكن توصيفها بمرحلة التبعية والاذعان التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحصول البلاد الإسلامية على الاستقلال الشكلي عن القوى الاستعمارية الغربية وبداية موجات متتالية من الهجرة حيث احتاجت الدول الغربية ولا سيما الأوروبية منها إلى الأيدي العاملة لبناء ما دمرته الحرب وإعادة الاعمار، كما فتحت أمريكا أبوابها للعرب والمسلمين وغيرهم منذ بداية القرن العشرين لنفس الغرض، وازدادت وتيرة الهجرات خلال العقود السبعة الماضية، حيث وصل إلى الغرب أعداد كبيرة من الطلاب للدراسة والعمل.

ـ والثالثة هي مرحلة التوطين والاندماج والانخراط في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع التمسك بالهوية الثقافية والالتزامات الدينية، والمطالبة بحقوق المواطنة على غرار سائر الفئات الأخرى التي تنحدر من أصول مهاجرة، وهو ما أدى الى افراز جملة من التحديات التي تعيق إمكانية التعايش الإيجابي دون اللجوء للانصهار والذوبان الثقافي. ولا شك أن هذه التحديات لها علاقة بمنظومة القيم الغربية المرتبطة بمفاهيم الحداثة والعلمانية والديمقراطية وحقوق الانسان والتي أضحت مثار جدل حتى داخل النخب الغربية ذاتها. كما ترتبط أيضا بالتوتر التاريخي للعلاقة بين الحضارتين الغربية والإسلامية وما أفرزته من أزمات وآخرها الصراع جيو استراتيجي الدائر في منطقة الشرق الأوسط.

التحديات الذاتية والتحديات الموضوعية:

عزّزت التطورات الأخيرة للحرب على غزة جملة التحديات الذاتية والموضوعية التي رافقت الوجود الإسلامي في البلدان الغربية وتطوره خلال العقود القليلة الماضية.

أما التحديات الذاتية فهي تتمحور حول ثلاث موضوعات هيكلية مزمنة وهي:

ـ تحدي حماية الهوية والانتماء: حيث يواجه الوجود الإسلامي في الغرب ضغوطا متزايدة وملاحقة فكرية وثقافية متواصلة تمس من ثوابت هويتهم الدينية وانتمائهم الثقافي مما يتطلب منهم جهودا مضنية ومستدامة للتصدي لتلك الضغوط والإكراهات. ويشكل اندلاع الحرب الاسرائيلية على غزة واتجاهها نحو مزيد من الاشتعال والتوسع عاملا إضافيا من عوامل تعزيز منسوب الانتماء للهوية الإسلامية لدى قطاعات واسعة من المسلمين في الغرب وهم يشاهدون بشاعة الأحداث وفظاعة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بدعم عسكري ومادي وسياسي من حكومات بلدانهم التي يعيشون في كنفها كمواطنين ويدفعون لها الضرائب، تلك الضرائب التي تساهم بشكل مباشر في تمويل الحرب وتقتيل الأبرياء من النساء والأطفال والمدنيين.

ـ تحدي التعايش والاندماج والتكيف مع الواقع وهو إذا ما وضع بجانب التحدي السابق المتعلق بحماية الهوية والانتماء، يصبح رهين معادلة دقيقة تجمع بين التمسك بثوابت الهوية من جهة ومراعاة اكراهات الواقع من جهة أخرى، وهو ما دفع قيادات الوجود الإسلامي في الغرب وعلمائه ومفكريه الى استنباط فقه خاص وهو فقه الأقليات الذي يرتكز على مفهوم الأولويات والموازنة بين المصالح والمفاسد في مختلف القضايا والمستجدات التي تعترض هذا الوجود. وهو الاتجاه الذي تبنته المجالس الاجتهادية الإسلامية في الغرب على غرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية والمجلس الفقهي الكندي.

ـ تحدي تحسين صورة الاسلام لدى عموم الغربيين التي برغم الجهود المبذولة التي تقوم بها المؤسسات الإسلامية المختصة الا أنها لا تزال تغلب عليها الصورة النمطية السلبية المرتبطة بالتطرف والإرهاب التي يعمل على تجذيرها الاعلام الغربي الى جانب الخطاب السياسي المتحيز ضد الإسلام ورموزه من قبل البعض من السياسيين والنخب الفكرية في المجتمعات الغربية. وقد تكرست هذه الصورة أكثر إثر صعود اليمين المتطرف وانتشار الخطاب العنصري وتوظيف ملفات الهجرة والعنف لخدمة أجندة مرسومة تهدف الى تحجيم الوجود الإسلامي في الدول الغربية واعاقة جهود القائمين عليه في الاندماج والتعايش والتوطين.

وأما التحديات الموضوعية، فتتعلق أساسا بـ :

ـ تحدي التصدي للعنصرية وتنامي الكراهية التي تعكسها ظاهرة الاسلاموفوبيا وهي ظاهرة بدأت تشهد اتساعا متزايدا في السنوات الأخيرة وخاصة عقب احداث الحادي عشر من سبتمبر التي ألصقت عنوة بالإسلام في حين ظهرت العديد من الأدلة والبراهين التي تؤكّد خلاف ذلك الى جانب ارتباط تلك الاحداث بأجندات دولية بدأت تنكشف حلقاتها يوما بعد يوم.

وقد نجم عن تفاقم هذه الظاهرة اعتداءات عنصرية ضد المسلمين سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات في العديد من البلدان الغربية شملت الاعتداء اللفظي والجسدي وتخريب الممتلكات والاعتداء على المراكز الإسلامية والمساجد على غرار ما حدث في نيوزلندا عام 2009 أو ما عرف بمجزرة المسجدين، وأحداث قتل في كبيك بكندا عام 2017 والهجمات على النساء المحجبات في فرنسا عام 2013 والاعتداءات على المساجد بالسويد عام 2014 وحرق المركز الإسلامي في فيكتوريا بولاية تكساس عام 2017 وهجوم الشاحنة بلندن في نفس العام وبألمانيا عام 2020 واطلاق النار في أوسلو بالنرويج أمام مسجد عام 2022 وغيرها كثير. كما شهدت العديد من البلدان الغربية اعتداءات تستهدف الوجود الإسلامي بعد نشوب الحرب على غزة مثل ما حدث في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وغيرها.

يشكل اندلاع الحرب الاسرائيلية على غزة واتجاهها نحو مزيد من الاشتعال والتوسع عاملا إضافيا من عوامل تعزيز منسوب الانتماء للهوية الإسلامية لدى قطاعات واسعة من المسلمين في الغرب وهم يشاهدون بشاعة الأحداث وفظاعة الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية بدعم عسكري ومادي وسياسي من حكومات بلدانهم التي يعيشون في كنفها كمواطنين ويدفعون لها الضرائب، تلك الضرائب التي تساهم بشكل مباشر في تمويل الحرب وتقتيل الأبرياء من النساء والأطفال والمدنيين.
ـ تحدي الحفاظ على الثوابت ومواكبة المتغيرات والانخراط في معركة القيم والأخلاق: في ظل انخرام المنظومة القيمية الغربية وتفشي الانسلاخ من كل ما يرتبط بالأخلاق والتهديد الذي تواجهه مؤسسة الاسرة، أضحى على مؤسسات الوجود الإسلامي في الغرب واجب التصدي لهذه المخاطر الوجودية وحماية الثوابت المرجعية لهويتهم الثقافية والدينية وخوض معركة القيم والأخلاق والدفاع عن إنسانية الانسان جنبا الى جنب مع شركائهم في المجتمعات الغربية ممن يشتركون معهم في نفس المبادئ ويقفون معهم على نفس الأرضية، وهو ما يتطلب تعزيز الحوار بين الثقافات والأديان والتعاون مع المنظمات غير الإسلامية لتعزيز الفهم المتبادل في هذا المجال. كما يتطلب أيضا التمسك بالقيم مع التأقلم مع الظروف المحيطة بالتركيز على المشترك الأخلاقي بين الديانات، بالإضافة الى المشاركة الفعالة في المجتمع والمساهمة في نصرة القضايا العادلة وحقوق الانسان، وهو ما يساعد على تغيير الصورة النمطية السلبية التي ألصقت بالإسلام والمسلمين.

ـ تحدي استثمار الاستفاقة الهامة للضمير العالمي التي خلفتها الحرب على غزة للتصدي لازدواجية المعايير وتجزئة القيم والتي عبرت عنها بشكل لافت النضالات الطلابية في المجتمعات الغربية مناصرة لغزة وانحيازا للقضية الفلسطينية. لم يشهد العالم الغربي في تاريخه الطويل انتفاضة ضد قيمه وسياساته الرسمية وصحوة لضميره الإنساني مثلما حدث خلال الأشهر الأخيرة بمناسبة الحرب الهمجية على غزة وشعبها الصامد المدافع عن حقوقه وكرامته وسيادته الوطنية. فقد عجّت الجامعات الامريكية والأوروبية بالاعتصامات والتحركات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني والمنددة بالجرائم اليومية التي فاقت كل التصورات وجعلت كل أحرار العالم مشدوها ومصدوما أمام تفاقم المجازر الوحشية التي تنقلها منصات التواصل الاجتماعي مباشرة على مدار الساعة.

تدعو هذه الاستفاقة الوجود الإسلامي في الغرب إلى العمل على حسن استثمارها وتوظيفها لصالح مناصرة قيم العدل والحرية والكرامة الإنسانية ومناهضة الظلم والعنجهية وازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين والدوس على القانون الدولي والشرائع السماوية والقيم الكونية التي تشترك فيها شعوب العالم بمختلف ثقافاتهم ومرجعياتهم الفكرية. يتطلب هذا الاستثمار استراتيجية شاملة تقوم على التأثير الفكري والسياسي والإعلامي والقانوني الى جانب تفعيل دور المجتمعات المدنية والديبلوماسية الشعبية عبر التوظيف الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي والتواصل مع المؤثرين العالميين والمنظمات الحقوقية والاستفادة من القانون الدولي الذي تدوس عليه الدول الغربية الكبرى الداعمة للعدوان على الشعب الفلسطيني والضاربة عرض الحائط بقرارت الأمم المتحدة ومؤسساتها المختصة على غرار محكمة العدل الدولية.

التداعيات الإيجابية والتداعيات السلبية:

رغم أن الحروب عادة ما تحمل تداعيات مأسوية وسلبية بالدرجة الأولى، إلا أن ما يجري على أرض غزة يحمل إلى جانب ذلك بعض التداعيات الإيجابية غير المباشرة التي ستكون نبراسا لأنصار الحق والحرية والقضايا الإنسانية العادلة في العالم وفي مقدمتهم مؤسسات وكيانات الوجود الإسلامي في الغرب لخوض معركتهم وتوجيه نضالاتهم ضد الظلم والاحتلال واستعباد الشعوب.

وفي ما يلي أهمها:

ـ زيادة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية: رغم التحفظات التي أبدتها في البداية بعض الأطراف الغربية من حدث 7 أكتوبر الذي فاجأ جميع المراقبين وشكّل صدمة كبيرة لها الى جانب إحداث رجة قوية في المجتمع الإسرائيلي والقوى المساندة له في الغرب، الا أن حجم الجرائم البشعة التي ارتكبتها إسرائيل في محاولة لترميم الجرح الذي أصابها ذلك اليوم، غطى على ذلك الحدث وكشف البون الشاسع بين حجم الفعل ورد الفعل، بين مبدأ مقاومة الاحتلال ومنطق الإبادة الجماعية الذي تنتهجه إسرائيل، وهو ما يوفر للوجود الإسلامي في الغرب فرصة للمساهمة في تعميق هذا الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية وتوسيعه بما من شأنه أن يعمل على تغيير المواقف السياسية لبعض الدول وتحفيز الضغط الشعبي على الحكومات لاتخاذ خطوات ملموسة.

ـ تحفيز الحراك الدولي والمبادرات الإنسانية: استمرار الحرب على غزة من شأنه أن يحفّز الحراك الدولي لصالح القضية الفلسطينية ويدفع الى تنظيم مبادرات إنسانية دولية لتقديم المساعدات والدعم وفك الحصار. وهنا يكمن أهمية الدور الذي يمكن أن يقوم به الوجود الإسلامي بالغرب سواء عبر التنسيق مع المنظمات الدولية أو من خلال جهود المجتمع المدني، من أجل التحسيس بخطورة الوضع الإنساني ومصاعبه المتزايدة.

ـ زيادة الضغط على السياسات الغربية المنحازة لإسرائيل: يستطيع الوجود الإسلامي بالغرب أن يمارس ضغوطات فعالة على الحكومات الغربية المتحيزة للسردية الإسرائيلية من أجل وقف الانتهاكات التي لا تتوقف ومنع المزيد من المجازر ضد المدنيين من النساء والأطفال، خصوصا وأن تلك السردية بدأت تتهاوى في نظر الكثير من الدول الغربية على غرار اسبانيا وبلجيكا والسويد والنرويج ونيوزلندا وغيرهم، وهو تطور يساعد مؤسسات الوجود الإسلامي في الغرب في جهودها الرامية الى اقناع الدول المتعنتة لتغيير مواقفها والنسج على منوال الدول الأخرى.

ـ الانكشاف الأخلاقي للغرب: من التداعيات البارزة للحرب على غزة سقوط الشعارات الأخلاقية والإنسانية للغرب بعد 7 أكتوبر وتصدع منظومة القيم التي تقوم عليها الحضارة الغربية وتسعى الى تسويقها وعولمتها مثل مقولات الديمقراطية وحقوق الانسان والقانون الدولي ومكافحة الإرهاب وما إلى ذلك. فقد كشفت أحداث غزة هشاشة هذه المقولات وضعف صمودها أمام ما يرتكب في غزة والضفة الغربية ولبنان من ممارسات مدعومة من قبل الدول الغربية الكبرى مما شكل غطاء سياسيا لإسرائيل وشجعها على المزيد من تلك الانتهاكات.

ولولا الترسانة التسليحية الغربية عموما والأمريكية بالخصوص والتمويل الواسع للعمليات الى جانب الدعم السياسي، ما كانت إسرائيل قادرة على الاستمرار في هذه الحرب شهرا واحدا. يمثل هذا الانكشاف الأخلاقي للغرب ورقة مهمة يمكن استخدامها من قبل الوجود الإسلامي في الغرب للفت انتباه الشعوب والمجتمعات الغربية لحجم المخاطر التي أودت اليها سياسات حكوماتهم إزاء هذه الحرب الظالمة على مستقبل الحضارة الغربية ومنظومة القيم التي تقوم عليها والصورة الجديدة للغرب لدى الشعوب والمجتمعات الأخرى.

رغم أن الحروب عادة ما تحمل تداعيات مأسوية وسلبية بالدرجة الأولى، إلا أن ما يجري على أرض غزة يحمل إلى جانب ذلك بعض التداعيات الإيجابية غير المباشرة التي ستكون نبراسا لأنصار الحق والحرية والقضايا الإنسانية العادلة في العالم وفي مقدمتهم مؤسسات وكيانات الوجود الإسلامي في الغرب لخوض معركتهم وتوجيه نضالاتهم ضد الظلم والاحتلال واستعباد الشعوب.
ـ ومن التداعيات الإيجابية على الوجود الإسلامي بالغرب تحول نظرة فئات واسعة من المجتمع الأوروبي للإسلام، من جراء معاينتهم المباشرة للأحداث وانبهارهم بمنسوب الصبر والصمود والتضحية لسكان غزة والضفة الغربية واستبسالهم في عدم الاستسلام والرضوخ لمنطق القوة والغطرسة الذي تمارسه الحكومات الغربية، مما أدى بالعديد من الغربيين ولا سيما الشباب الى الاقبال على الإسلام وإعادة اكتشافه ومعرفة الاسرار التي تقف وراء هذا الصمود والمقاومة. وقد شهدت ظاهرة اعتناق الإسلام قفزة نوعية خلال الأشهر الأخيرة بعد السابع من أكتوبر العام الماضي حيث ساهمت الاحداث في جذب اهتمامهم للتعرف على أسباب الحرب وجذور الصراع وتاريخ المنطقة وجعل الكثيرين يتجهون الى دراسة الإسلام والقيم الإسلامية التي تغذي هذه الروح التي يمتلكها أهل غزة وشعب فلسطين. وقد شاركت أعداد غفيرة من هذه الفئات المجتمعية في التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية في مختلف العواصم الغربية.

في مقابل تلك التداعيات الإيجابية بالنسبة للوجود الإسلامي في الغرب، هناك جملة من التداعيات السلبية، نجملها في النقاط التالية:

ـ توظيف اليمين المتطرف للأحداث ضد الوجود الإسلامي في البلدان الغربية: عبرت العديد من الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وامريكا الشمالية منذ بداية الحرب على غزة على موقف يجمع بين التأييد المطلق لإسرائيل بشكل واضح وصريح وبين التحريض على الوجود الإسلامي في الدول الغربية، وتعتبر تلك الأحزاب أن إسرائيل تعدّ حليفا استراتيجيا فيما يسمونه بالخطر الإسلامي، وتمثل بالتالي الخط الامامي في مواجهة الإرهاب والتطرف الإسلامي.

ويعكس هذا الموقف تقاطعا للأيديولوجيات من الجهتين: أيديولوجية اليمين المتطرف القائمة على العنصرية والكراهية والاسلاموفوبيا والأيديولوجية اليمينية الصهيونية المتطرفة في إسرائيل. ولم تتخلف تلك الأحزاب عن توظيف الاحداث لتأجيج مشاعر العداء تجاه المسلمين والمهاجرين واعتبارهم العدو الأول للحضارة الغربية. ويأتي هذا الموقف المتطرف في ظل تنامي اليمين المتطرف وصعود العديد من الأحزاب التي تمثله الى السلطة والمشاركة في البرلمانات. كل ذلك يحتاج من القائمين على الوجود الإسلامي في البلدان الغربية استراتيجية شاملة للتعاطي مع هذا التحدي.

ـ توتر العلاقة مع السلطات في الدول الغربية: للحرب الدائرة في غزة تأثيرات بالضرورة على علاقة المؤسسات والمنظمات الإسلامية المتواجدة بالبلدان الغربية بحكومات هذه البلدان نظرا للتباين الحاصل بين مواقف الطرفين مما يجري في غزة. فالحكومات الغربية في معظمها مصطفة وراء السردية الإسرائيلية وداعمة بشكل مباشر ومتواصل للعمليات العسكرية ضد أهالي غزة ولو كان تحت عنوان ملاحقة المقاومة ومحاولة القضاء عليها، في حين تقف هياكل الوجود الإسلامي موقفا مناصرا للمقاومة والقضية الفلسطينية بشكل عام ويحظى بتأييد متزايد من أطياف واسعة من الغربيين. هذا التباين يدفع الى توتير العلاقة والى تراجع منسوب الثقة بين الطرفين ومستوى انخراط تلك الهياكل والمؤسسات في الحياة السياسية والاجتماعية.

ـ تراجع مشروع توطين الوجود الإسلامي في الدول الغربية: من التداعيات المحتملة في المديين المتوسط والبعيد، تعثر الجهود المبذولة منذ بضعة عقود من أجل توطين الوجود الإسلامي بالبلدان الغربية وهو مشروع استراتيجي يهدف الى تحويل كل فرد من أبناء الوجود الإسلامي من وضعية "مهاجر" الى وضعية "مواطن" له كامل الحقوق وعليه كافة الواجبات. كشفت الحرب على غزة هشاشة هذا المشروع حيث بدأت بعض الحكومات الغربية في اقصاء وتهميش وحتى ترحيل بعض النشطاء في دائرة الوجود الإسلامي ونزع صفة المواطنة أو الإقامة القانونية منهم في تجاوز حينا وتطويع متعسف للقانون حينا آخر. ان تراجع الثقة المتبادلة التي تم بناؤها في العقود الأخيرة بين المواطنين المسلمين الغربيين وحكوماتهم من شأنه أن يؤدي الى عزلتهم وتقلص مشاركتهم في الحياة العامة ويعيق جهود الاندماج الذي طالما اشتغلت عليه تلك الحكومات ويهدد الاستقرار الاجتماعي فيها.

سيناريوهات المستقبل:

يجدر في خاتمة هذا التحليل تقديم قراءة استشرافية مكثفة لمستقبل الوجود الإسلامي في الغرب في ضوء الاحداث الجارية في غزة والأراضي الفلسطينية والمنطقة. وفي تقديرنا يمكن تصور سيناريوهات ثلاثة تتراوح بين تصاعد الإسلاموفوبيا وبالتالي مزيد التضييق والمحاصرة، وبين المقاومة القانونية والاجتماعية ضد التضييق، والاندماج الإيجابي عبر المشاركة السياسية والاجتماعية:

ـ تصاعد الإسلاموفوبيا ومزيد التضييق والمحاصرة: ان استمرار الصراع في غزة دون التوصل الى حل سياسي لوقف الحرب من شأنه أن يعزز المشاعر العدائية ضد الوجود الإسلامي في الغرب وتفاقم التوتر الذي يقود إلى زيادة حالات الإسلاموفوبيا، بما في ذلك التعرض للتمييز في العمل، والمدارس، والفضاءات العامة. كما قد ترتفع معدلات الهجمات اللفظية والجسدية على المسلمين أو المساجد والمراكز والمؤسسات الإسلامية. وهو ما ينعكس أيضا على العلاقات بين الجاليات وبين الأحزاب السياسية الشيء الذي يهدد الاستقرار والسلم الاجتماعي في تلك البلدان خصوصا في البلدان التي يسود فيها الخطاب القومي والشعبوي الذي يقوده اليمين المتطرف. وقد تقوم الحكومات بتعزيز سياسة المراقبة والتضييق على نشاطات الوجود الإسلامي مما يفاقم من الضغوطات. وهو وضع له تأثير خاص على فئات الشباب المسلم الذي أصبحت القضية الفلسطينية جزءًا من تكوين هويتهم وشعورهم بالانتماء.

ـ المقاومة القانونية والاجتماعية ضد التضييق: أفرزت الحرب على غزة حالة من الوعي القانوني على نطاق دولي واسع سبّب في إحراج الحكومات الغربية المساندة لإسرائيل وكشف سياسة ازدواجية المعايير التي تمارسها. وهو ما يحفز الوجود الإسلامي على مزيد من الاحراج لتلك الحكومات وملاحقتها قانونيا أمام المحاكم والمنظمات الحقوقية وربما يجلب لهم مزيد من التضامن من الجماعات العرقية والدينية الأخرى التي تواجه تمييزا مماثلا مما يعزز الجهود المشتركة لمقاومة الظلم وممارسة الضغط على الحكومات مما قد يدفعها الى التراجع عن مواقفه المتحيزة وسياساتها المتشددة.

ـ الاندماج الإيجابي عبر المشاركة السياسية والاجتماعية: قد يدفع سيناريو المقاومة القانونية اذا ما أدير بكفاءة وفعالية على المديين المتوسط والطويل الى جانب تنامي الدعم الشعبي في المجتمعات الغربية الى فتح باب الحوار بين القائمين على الوجود الإسلامي والحكومات الغربية والتوصل الى تفاهمات تعزز الاندماج الإيجابي وتوسيع المشاركة السياسية والاجتماعية مما يعزز فرص التوطين ويخفض من التوتر. ويمكن أن تشجع تطورات الاحداث في غزة خصوصا إذا ما تم التوصل الى تفاهم أو تراجع الموقف الإسرائيلي أمام صمود المقاومة، على ظهور مبادرات لتحسين العلاقة بين الوجود الإسلامي والحكومات الغربية. ومن خلال هذه الحوارات والمبادرات يتعزز الاندماج الإيجابي للمسلمين فيصبحون جزءا أساسيا من المجتمعات الغربية وقوة إيجابية تساهم في الاستقرار والسلم الاجتماعي.