صدر الحكم بإعدام 521 من أعضاء الإخوان كالصاعقة على الجميع، سواء أكانوا من أشد أعداء هذه الحركة، أو من الذين دافعوا عنها بحكم الانتماء المشترك لنفس المشروع. لم يسبق أن صدر حكم جماعي بمثل هذه السرعة والتعميم والقفز على حقوق المتهمين.
لم يعكس هذا الحكم القضائي عمق القطيعة التي حدثت بين المؤسسة العسكرية وحركة الإخوان المسلمين، وإنما تجاوز الحدث هذا السقف ليؤشر على أن الصراع تحول إلى حرب مفتوحة لم تعد تخضع لقواعد قانونية أو سياسية محددة ومقيدة.
ليست هذه أول مواجهة تقع بين الطرفين المتقابلين، إذ بالعودة إلى الحقبة الصعبة من المرحلة الناصرية، حصل الصدام التاريخي بين الإخوان وعبد الناصر، تم خلالها اعتقال الآلاف من كوادر الحركة، وتعرضوا لمحنة قاسية استمرت لمدة سنوات، لكن لم يتجاوز عدد المحكوم عليهم بالإعدام -سواء خلال المحاكمة الأولى في 1954 أو في الثانية من سنة 1965- سبعة أو ثمانية متهمين، كان من بينهم عبد القادر عودة وسيد قطب.
في تونس كان للحكم وقع سيئ جدا، حيث لم يرحب به أي طرف سياسي ولم يتجاوب معه جميع المثقفين. وبما أن ما حدث في
مصر عندما تدخل الجيش ووضع حدا لحكم الإخوان، قد لقي تفهما وتجاوبا من قبل شق من المعارضة مقابل استنكار حركة النهضة وحليفيها في السلطة، فإن الأمر قد اختلف هذه المرة عندما صدر الحكم بالإعدام الجماعي. لم يقبل الجميع بذلك، ولم يجدوا له مبررا مقنعا أو مقبولا سواء من حيث الشكل أو المضمون، بل إن رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان اعتبره "جريمة ضد الإنسانية".
إذا تعاملنا بكل موضوعية مع ما يجري في مصر، فإنه بالإمكان القول بأن هذا الحكم، وبدون التشكيك في استقلالية القضاء المصري، يعتبر خطأ سياسيا فادحا من الحجم الكبير. والدليل على ذلك ما يلي:
أولا: هذا الحكم جاء في صالح الإخوان وليس ضدهم. صحيح أنه يتضمن رسالة واضحة مفادها أن الدولة مستعدة للضرب بيد من حديد، وأنها لن تتراجع أمام القرار باستئصال هذه الخصم السياسي الذي رفض حتى الآن التسليم بالأمر الواقع، لكن العقوبة الجماعية التي صدرت من شأنها أن تعيد حركة الإخوان إلى موقع المظلومية الذي كانت دائما تحتمي به وتحافظ من خلاله على وجودها وعلى مشروعيتها، وتجعل منه رداء تواري به أخطاءها. لاشك في أن القمع يضعفها، ويجمد نشاطها لفترات طويلة، لكنه في الآن نفسه يجعلها أكثر تماسكا في داخلها، ويكسبها قدرا من التعاطف، ويضفي على كوادرها القيادية مسحة من البطولة الاستثنائية، وهو ما يوفر لها أرضية جديدة لضمان البقاء والاستمرارية. ويكفي الرجوع إلى تجارب سابقة حدثت في مصر وفي تونس وفي غيرها من الدول، حتى يكاد أن يتحول الأمر إلى سنة من سنن الله في خلقه.
ثانيا: هذا الحكم لن يساعد إطلاقا على كسب ثقة الغرب، مهما كانت درجة انتهازية هذا الغرب وحرصه على حماية مصالحه. الغرب ليس حليفا للإخوان كما يروج له البعض، وقد توفرت لي أكثر من مناسبة خلال اتصالاتي ومشاركاتي في عديد المناسبات لأتأكد من أن صانعي السياسات في الدول الغربية لا يثقون في الإخوان المسلمين أو في الحركات المشابهة لهم، لكن مع ذلك فإن هؤلاء لا يمكنهم، خاصة بعد التعديل الذي أدخلوه على سياساتهم الخارجية على إثر الثورات التي اجتاحت عددا من الدول العربية، أن يؤيدوا أحكاما من هذا القبيل في مرحلة ازداد فيها الوعي الدولي بأهمية احترام حقوق الإنسان والديمقراطية. فالغرب لم يهضم بعد الطريقة التي أبعد بها الإخوان عن السلطة، فكيف يمكنه أن يؤيد إعدام المئات من السياسيين.
ثالثا: إذا ما قدر وأن تم تنفيذ هذا الحكم في عدد من أعضاء الإخوان المسلمين، فإن من تداعياته تعميق الأزمة المصرية، وفتح مجال أوسع لاستشراء ظاهرة العنف والإرهاب في البلاد. إن الحكمة تقتضي تكثيف الجهود من أجل تطويق المجموعات التي اختارت رفع السلاح في وجه الدولة، وذلك عبر تجفيف منابعها وسحب المبررات التي تستند عليها من تحت أقدامها، في حين أن تشديد القبضة على الخصوم السياسيين، وغلق جميع المنافذ في وجوههم، وعدم ترك أي سبيل لتوفير شروط دنيا للتسوية السياسية، فإن ذلك من شأنه أن يولد مزيدا من اليأس والحقد والغضب، ويوفر فرصة ذهبية لدعاة الإرهاب والعنف المسلح حتى يفرضوا إرادتهم واستراتيجيتهم على الجميع. إن مصر في حاجة مؤكدة وعاجلة للاستقرار السياسي من أجل تحقيق الحد الأدنى من النمو والتنمية. وهذا لن يكون إلا بوضع خطة سياسية مغايرة لما يجري منذ أشهر.
رابعا: الحكم القضائي زاد من تعبئة المنظمات الحقوقية الدولية والمصرية أيضا لمواجهة التهديدات التي تواجه حقوق الإنسان الدنيا في هذا البلد الحيوي والاستراتيجي. كما أن الحكم أعاد الجدل في صفوف العديد من أنصار إبعاد الإخوان عن السلطة، والذين يجدون أنفسهم أمام مفترق طرق شديد الصعوبة والخطورة. لأنهم إن قبلوا بإلغاء خصومهم السياسيين بأي ثمن، فإنهم يكونون قد تخلوا نهائيا عن قيم الثورة المصرية التي كانت في مقدمتها الحرية والعدالة. هم الآن أمام نقطة فاصلة لا يمكن أن تتجاوزها النخب المصرية دون أن تراجع حساباتها، وتتأكد من مدى صحة المسار الذي ستسلكه.
في ضوء هذه المعطيات، سيكون من مصلحة مصر ونخبها، وحماية لمسارها الانتقالي، أن تضع حدا لمظاهر الانتكاس إلى الخلف، وأن تعيد ترتيب أوراقها، وأن يعمل العقلاء فيها على إعادة ترتيب المشهد، وذلك عبر سلسلة من الإجراءات العاجلة، وفي مقدمتها تجنب التورط في الإعدامات الجماعية، وتوفير شروط التسوية السياسية مع الإخوان بعد أن بدأ البعض منهم يدرك بأن الإصرار على مواصلة التقدم في الطريق المسدود هو توقيع في النهاية على الانتحار السياسي للجماعة.