اعتبر أساتذة شريعة، وباحثون شرعيون إنزال أحاديث
الرايات السود على جماعات معينة في زماننا مسلكا خاطئا، يفضي إلى وضع النصوص في غير مواضعها، ما ينتج عنه زعزعة ثقة المسلمين بالشريعة ونصوصها، هذا فيما لو كانت تلك النصوص صحيحة تنهض للاحتجاج بها، فكيف إذا كانت ضعيفة ومختلف على تصحيحها كأحاديث الرايات السود؟.
وذهب علماء وباحثون في علوم الشريعة – كما سيأتي في سياق هذا التحقيق – إلى أن أحاديث الرايات السود ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها على مسائل هامة وخطيرة، ولو كانت صحيحة لا مطعن فيها فإنها عارية عن تحديد الزمان الذي ستظهر فيه، فكيف يتجرأ أناس فينزلونها على جماعات في زماننا هذا؟
يكثر تداول أحاديث الرايات السود في أوساط تيارات السلفية
الجهادية وأنصارها، كتب أحدهم (تحت اسم مناصر الحق الجنوبي) على أحد المنتديات بعد أن ساق جملة من تلك الأحاديث قائلا: "والراجح أن يكون هؤلاء المذكورون في الأحاديث هم تنظيم
القاعدة لعدة أسباب ودلائل وصفات ذُكرت في الأحاديث فهم في بلادل خراسان (أفغانستان)، ويحملون رايات سوداء".
بسؤاله عن مدى انتشار تلك الأراء والتصورات في أوساط تيارات السلفية الجهادية، أفاد القيادي في التيار السلفي الجهادي في الأردن محمد الشلبي المعروف بأبي سياف (عربي 21) أن ذلك ربما يكون متداولا على بعض المنتديات الجهادية، لكنه بحسب علمه وبرجوعه لطلبة عمل متمكنين فإنه لا يرى أن هذا الزمان هو زمن الرايات السود، وهو يميل إلى قول من يضعف تلك الأحاديث.
درجة أحاديث الرايات السود من الناحية الحديثية
أوضح الدكتور الشريف حاتم بن عارف العوني أستاذ الحديث وعلومه بجامعة أم القرى في السعودية لـ "عربي 21" أنه من خلال دراسته لأحاديث الرايات السود لم يجد فيها حديثا صالحا للاحتجاج، لا مرفوعا، ولا موقوفا على أحد الصحابة، مع ما له من طرق والفاظ بالغة الكثرة، وقد امتلأ بها كتاب الفتن لنعيم بن حماد.
تناول الدكتور في بحثه دراسة أقوى ما ورد فيها من الأحاديث المرفوعة وهي ثلاثة أحاديث:
الأول: حديث ثوبان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي"، وله ألفاظ أخرى مطولة. أخرجه الإمام من طريق شريك بن عبد الله، عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي قلابة، عن ثوبان به. وهذا إسناد منقطع بحسب الدكتور العوني، حيث إن أبا قلابة لم يسمع من ثوبان شيئا كما قال العجلي...وأطال النفس في نقد سائر طرقه ورواياته.
الثاني: حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق، عهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فُيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه، حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيلمؤها فسطا، كما ملؤوها جورا، فمن أدرك ذلك منكم، فليأتهم ولو حبوا على الثلج".
أخرجه ابن ماجة، والبزار في مسنده، والعقيلي في الضعفاء.. بعد أن أورد الدكتور العوني ما ذكره أئمة الحديث ونقاده عنه، وناقش أقوالهم وذكر ما فيه من العلل، قال: "لذلك فإن الراجح ضعف هذا الحديث بل إنه منكر".
ثالثا: حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تخرج من خراسان رايات سود لا يردها شيء، حتى تنصب بإيلياء" أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والترمذي، والبيهقي، كلهم من طريق رشدين بن سعد، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب، عن أبي هريرة به.
وأشار الترمذي إلى ضعفه بقوله عقبه :"غريب". وقال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن الزهري إلا يونس، تفرد به رشدين"، ورشدين بن سعد بحسب الدكتور العوني اختلف فيه بين الضعف والترك، وانفراده بهذا الحديث يقتضي نكارة حديثه. وخلص العوني في نهاية بحثه إلى القول "وبذلك يُعلم أنه لم يصح في الرايات السود حديث مرفوع، ولا حديث موقوف على الصحابة رضي الله عنهم".
مخاطر إنزال أحاديث الرايات السود على زماننا
من جهته اتفق الدكتور أسامة نمر أستاذ مساعد في الحديث وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية مع ما توصل إليه الدكتور حاتم العوني في بحثه من تضعيفه لأحاديث الرايات السود، لافتا إلى أن إطلاق وصف مختلف عليها صحة وضعفا في الحكم على تلك الأحاديث فيه قدر من التساهل لأن أسانيدها بالغة الضعف.
ورفض الدكتور نمر في حديث لـ "عربي 21" إنزال أحاديث الرايات السود على جماعات معينة في زماننا، معترضا على ذلك بقوله كم خرجت رايات سود عبر تاريخنا الإسلامي من خراسان؟ فالأحاديث على ضعفها عارية عن تحديد زمان معين، ثم إن الأحاديث الواردة في الرايات السود تأتي مقرونة بخروج المهدي، مؤكدا أن أحاديث المهدي بحسب دراسته لها ضعيفة ولا يسلم منها ما يصلح للاحتجاج به.
أما فيما يتعلق بمنهجية إنزال الصحيح الثابت من أحاديث الفتن وأشراط الساعة على الواقع، فيكون برأي الدكتور أسامة أن تلك الأحاديث تتنزل على الواقع بلا تأويل ولا ليٍّ لأعناق النصوص، فهي لوحدها تنطبق على الواقع ويعرفها الناس بلا شرح ولا بيان، كما في حديث الدابة التي تكلم الناس، فهي حينما تظهر تكشف عن نفسها بنفسها ويعرفها جميع الناس بلا تكلف ولا تأويل.
في السياق ذاته ذهب الدكتور محمد أبو صعيليك الباحث الشرعي المتخصص في الفقه وأصوله إلى الرأي نفسه بشأن أحاديث الرايات السود، ورأى أن الكلام على أحاديث الفتن وأشراط الساعة كالكلام على ما يسمونه بالإعجاز العلمي، فنحن أمام نصوص عامة فلا يجوز التكلف في إنزالها على وقائع وأحداث محددة، حتى لا يفضي ذلك إلى تكذيب الله ورسوله بسبب التأويلات الفاسدة وإنزالها على وقائع غير صحيحة، كما لا يصح تحميل النصوص ما لا تحتمل، مع عدم اعتقاد أن النص يفسر في واقعة محددة بعينها.
وفي جوابه عن سؤال "عربي 21" حول إنزال أحاديث الرايات السود على جماعات معينة كحركة طالبان وتنظيم القاعدة والدولة الإسلامية (خلافة البغدادي) رفض الدكتور أبو صعيليك تلك المسالك متسائلا: كيف ننزل أحاديث نبوية لم تحدد زمانا معينا، إن صحت وثبتت على زمان بعينه، وعلى جماعات بعينها، فما دليلهم على ذلك ومن أين جاءوا به؟
وعن آثار الإنزال الخاطئ لتلك الأحاديث على وقائع ليست هي المرادة بتلك الأحاديث، لفت الدكتور أبو صعيليك إلى أنها تؤدي إلى تيئيس الناس من دينهم، وخداعهم في بعض المواقف، وزعزعة ثقة المسلمين في دينهم، وشيوع ردة فعل عكسية في أوساط المسلمين بسبب خيبة الأمل من المبشرات المتوهمة والمتخيلة.
من جهته حذر الدكتور سعيد فودة المتخصص في علمي أصول الفقه والكلام، من التهور في إنزال أحاديث الرايات السود (هذا إن صحت) على جماعات بعينها في زماننا، مؤكدا أنها لا تنطبق على أي من تلك الجماعات، فالأحاديث الواردة فيها تقرن ظهورها بظهور المهدي، متسائلا: هل ظهر المهدي مع أي جماعة منها؟.
الشيعة ينازعون السنة في "الرايات السود"
ينازع الشيعة الاثنا عشرية أهل السنة في أن الرايات السود خاصة بهم، لتحديد ظهورها في الأحاديث والروايات من خراسان الإيرانية، وهي موطئة لمهديهم المختفي في سردابه، والذي سيخرج بعد حين، يقول الشيخ علي الكوراني العاملي في بحث له بعنوان: (حديث أهل المشرق والرايات السود) "أن المقصود بقوم من المشرق وأصحاب الرايات السود: الإيرانيون.
وبحسب الكوراني فإنه "أمر متسالم عليه عند جيل الصحابة الذين رووا الحديث الشريف وغيره فيهم.. ولم يذكر أحد منهم أن المقصود بهؤلاء القوم وبهذه الرايات أهل تركيا مثلا، أو أفغانستان، أو الهند، أو غيرها من البلاد، بل نص عدد من أئمة الحديث والمؤلفين على أنهم الإيرانيون، بل ورد اسم الخراسانيين في عدة صيغ أو فقرات رويت في الحديث..
يختم الكوارني بحثه بقوله: "ومن طريف ما سمعته من التعليق على حديث رايات المشرق وقوله صلى الله عليه وآله: "فليأتهم ولو حبوا على الثلج" أن أحد كبار علماء تونس (لم يذكر اسمه خوفا من الإضرار به واكتفى بأنه عالم جليل متقدم في السن) زار إيران في فصل الشتاء والثلج، وبينما كان خارجا من الفندق زلقت قدمه فوقع على الثلج. قال صاحبه: بادرت لأنهضه فقال لي: لا تفعل إصبر، أريد أن أنهض بنفسي.
يتابع الكوراني سرده للقصة بقوله: ونهض على يديه ببطء، حتى إذا استوى واقفا قال: كنا عندما نقرأ هذا الحديث عن المهدي وأنصاره ونصل إلى قوله صلى الله عليه وآله: "فليأتهم ولو حبوا على الثلج"، نتساءل: إن المهدي يخرج من الحجاز وأين الثلج في الحجاز أو الجزيرة حتى يأمرنا النبي بهذا التعبير؟ والآن عرفت معنى قوله صلى الله عليه وآله فأردت أن ألمس الثلج وأنهض عنه بنفسي!.
التعلق بأحاديث الفتن وأشراط الساعة وإنزالها على غير مواضعها الصحيحة غالبا ما يقود إلى أخطاء جسيمة وخطيرة، كما وقع في بداية ثمانينات القرن الماضي حينما ظهرت جماعة جهيمان العتيبي في مكة المكرمة وادعت أن محمد بن عبد الله القحطاني هو المهدي، فتحصنوا بالحرم المكي إلى أن تم القضاء عليهم بعد مهاجمتهم عسكريا وقتل مهديهم القحطاني، وأسر جهيمان ثم قتله فيما بعد.
يحدد الدكتور شرف القضاة أستاذ الحديث النبوي وعلومه في الجامعة الأردنية منهج التعامل مع أحاديث الفتن وأشراط الساعة (الأحداث المستقبلية) بأنه يقوم على ركنين، الأول: ثبوت الأحاديث النبوية، أي أن تكون صحيحة، والثاني: دلالة الأحاديث أي فهمها فهما صحيحا، فلا بد من الاعتماد على الأحاديث الصحيحة الثابتة، حين الحديث عن الفتن وأشراط الساعة، وفهمها بطريقة صحيحة قويمة.
ومن بين الضوابط الهامة في فهم دلالة أحاديث الفتن وأشراط الساعة، وفق شرح الدكتور القضاة لـ"عربي 21" "عدم الجزم بإنزال الحديث على واقعة معينة إلا إذا كان الأمر في غاية الوضوح ولم يختلف فيه العلماء، فإن اختلفت فيه أنظار العلماء فلا ينبغي الجزم به، بل ينبغي القول: ربما يكون المقصود بالحديث هو كذا..".
ونبه الدكتور القضاة إلى أن إسقاط الحديث على الواقع لا بد أن يكون من شخص: عالم بالأحاديث والفهم التكاملي لها، والتوفيق بينها عند الحاجة، وعالم بالواقع فالأمر ربما يختلف من مكان إلى آخر، فبعض الناس لم يغادر بلده أبدا، فيظن أن كل العالم كبلده، من حيث العادات والتقاليد، أو يظن أن كل البلاد العربية والإسلامية كبلده، فينبغي التنبه لذلك وعدم التعميم.