لا جدال بأن
تنظيم الدولة الإسلامية بات يتمتع بجاذبية إيديولوجية في العالم العربي تتفوق على جاذبية تنظيم القاعدة والحركات الجهادية الوطنية فضلا عن الحركات الإسلامية السياسية والدعوية، ولا تنفصل هذه الجاذبية عن مسارات الربيع العربي وبنية الدولة القطرية الراهنة، ففي سياق مناهضة الدولة القطرية لمخرجات الثورات العربية السلمية والانقلاب على نتائج الديمقراطية والتعددية والعدالة الانتقالية، عادت الدولة الوطنية بصورة فائقة لطبائعها السلطوية الخالصة، وأصبحت أجهزتها الإيديولوجية تتبع آليا أجهزتها القمعية دون مسائلة، فقد تطلبت عملية إعادة السلطوية عمليات قمع مضاعفة لما قامت به في نشأتها الأولى التي اعتمدت على قيام جزء من الجهاز القمعي بالانقلاب على جزء آخر بعيدا عن الأطر المجتمعة، وكونت طبقة مهيمنة تحتكر العنف والمقدس، أما في استئناف السلطوية الثانية فقد كانت الوصفة غاية في البساطة وتتمثل بإعادة بناء جدار "الخوف"، عبر الكشف عن وجهها القمعي دون مواربة.
وبهذا فإن إيديولوجيا الدولة الوطنية أصبحت تقوم على العنف والقمع المضاعف، دون وعود بالإصلاح والديمقراطية كونهما مفسدة أثبتت الثورات عقمهما وعدم صلاحيتهما لشعوب المنطقة، ودون ضمان الاستقرار، وهي الأطروحة التي تتماهى معها إيديولوجيا تنظيم الدولة فكريا وفقهيا بتعريف الدولة السلطوية كبنية قوة وإكراه، ولذلك فقد اعتمدت المرجعية الفكرية لتنظيم الدولة الإسلامية على أسس تتجاوز الجهاد التضامني ومنطق حروب النكاية، تستند إلى إدارة التوحش وتحقيق التمكين، ولذلك فقد توجهت اختياراتها الاستراتيجية نحو أطروحات أبو بكر الناجي في كتاب"إدارة التوحش: أخطر مرحلة تمر بها الأمة" وهي المرحلة الجهادية الانتقالية التي تفصل بين مرحلة بناء "شوكة النكاية" وتفضي إلى الوصول لمرحلة "شوكة التمكين"، أما على الصعيد الفقهي فقد اعتمدت على اجتهادات أبو عبدالله المهاجر، وخصوصا المسائل المتعلقة بأولوية قتال "العدو القريب" المتمثل بالمرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، وكذلك مسألة تكفير الشيعة عموما، ومعظم الخيارات الفقهية المتشددة الخاصة بالعمليات الانتحارية، ومسألة التترس، وعمليات الاختطاف والاغتيال، وقطع الرؤوس، وتكتيكات العنف والرعب.
يؤسس أبو بكر الناجي لبناء عقيدة قتالية واستراتيجية عملية للطائفة الجهادية تقوم على أسس دينية إسلامية تستعير النموذج السلطاني الذي بستند إلى فقه الشوكة والغلبة والقوة، وإلى التراث الغربي الثوري الحداثي ومنهج الحروب الكلاسيكية الحديثة وتكتيكات حرب العصابات، وكلاهما يقوم على أسس موضوعية مادية تستند إلى "سنن كونية" مشتركة، فموضوعة بناء الدولة مسألة كونية إنسانية كما هي شرعية دينية، ويستعير الناجي مفهوم "التوحش" من الفكر الخلدوني، وهو يكافئ مفهوم "الفوضى"، ويؤكد الناجي على حتمية مرحلة التوحش والفوضى ويبحث في طرائق استثمارها كي تفضي إلى تحقق وقيام "الدولة الإسلامية"، فــ "إدارة التوحش بحسب الناجي هي المرحلة القادمة التي ستمر بها الأمة ، وتُعد أخطر مرحلة فإذا نجحنا في إدارة هذا التوحش ستكون تلك المرحلة - بإذن الله - هي المعبر لدولة الإسلام المنتظرة منذ سقوط الخلافة ، وإذا أخفقنا - أعاذنا الله من ذلك - لا يعني ذلك انتهاء الأمر ولكن هذا الإخفاق سيؤدي لمزيد من التوحش..!! ولا يعني هذا المزيد من التوحش الذي قد ينتج عن الإخفاق أنه أسـوأ مما هو عليه الوضع الآن أو من قبل في العقـد السـابق (التسعينات) وما قبله من العقود بل إنَّ أفحش درجات التوحُّش هي أخفُّ من الاستقرار تحت نظام الكفر بدرجات".
يدرس الناجي في كتابه تجارب تاريخية عديدة شهدت إدارة التوحش، ويؤكد على أن الدولة الحديثة يمكن الإطاحة بها نظريا عن طريق قوتين: "الشعوب"، و"الجيوش"، إلا أنهما باتا مدجنين بوسائل عديدة من الإلهاء والشراء والتلاعب، كما أن الدولة الوطنية تخضع لقوى دولية ونظام عالمي يحرص على الحفاظ على بقائها وإدامة الهيمنة والسيطرة، ومع ذلك فإن المجتمع ينتج طائفة لا تخضع لاشتراطات الواقع، وتسعى إلى التغيير تتوافر على فهم طبائع الدولة والمجتمع والسنن الكونية، وعلى الرغم من الإمكانات الكبيرة للدول المهيمنة إلا أن الناجي يؤكد على أنها تقوم على "وهم القوة" الذي تسنده آلة إعلامية جبارة كاذبة، فبحسب الناجي: "صحيح أن هذه القوة جبارة وأنها تستعين بقوة أنظمة محلية من الوكلاء الذين يحكمون العالم الإسلامي إلا أنها رغم كل ذلك لا تكفي، لذلك لجأ القطبان إلى عمل هالة إعلامية كاذبة تصور هذه القوى أنها لا تقهر، وأنها تحيط بالكون وتستطيع أن تصل إلى كل أرض وكل سماء وكأنها تحوز قوة خالق الخلق".
يقدم أبو بكر الناجي مجموعة من القواعد الأساسية تفضي إلى الانتقال من النكاية والانهاك إلى الشوكة والتمكين، ويقوم بشرحها مطولا، ويمكن وصفها بــ "الوصايا" العشر في إدارة التوحش، وهي: 1 ـ إتقان الادارة، 2 ـ من يقود ومن يدير ومن يعتمد القرارت الادارية الاساسية؟، 3 ـ اعتماد القواعد العسكرية المجربة، 4 ـ اضرب بقوتك الضاربة وأقصى قوة لديك في أكثر نقاط العدو ضعفاً، 5 تحقيق الشوكة، 6 ـ فهم قواعد اللعبة السياسية، 7 ـ الاستقطاب، 8 ـ قواعد الالتحاق، 9 ـ إتقان الجانب الأمني وبث العيون، 10 ـ إتقان التربية والتعلم أثناء الحركة.
إذا كان أبو بكر الناجي يقدم رؤية استراتيجية عامة لطبائع الصراع وآليات العمل الجهادي العسكري، فإن شبكة الزرقاوي وصولا إلى خلافة البغدادي كانت قد طورت رؤيتها الاستراتيجية الخاصة بصورة أكثر حدة وفعالية، كما أنها لم تستدخل وصايا الناجي كدليل عمل للتنظيم إيديولوجيا واستراتيجيا، ولم تعتمد كتاباته في تكوين القيادات والكوادر، على خلاف كتب ورسائل أبو عبدالله المهاجر التي تعتبر الأساس الفقهي والإيديولوجي لتنظيم الدولة منذ بداياتها، والتي تعتمد كسلطة مرجعية حاكمة.
يعتبر كتاب "مسائل من فقه الجهاد" للمهاجر الأساس الفقهي المعتمد، ودليل العمل الإرشادي للتنظيم الدولة الإسلامية، وللكتاب تسمية أخرى رائجة لدى الجهاديين وهي: "
فقه الدماء"، ويستند المهاجر في مرجعيته إلى الكتاب والسنة والتراث الفقهي السني التاريخي بمذاهبه الفقهية الأربعة (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي) عموما، إلا أنه يعتمد بصورة خاصة على المذهب الحنبلي وخصوصا إختيارات إبن تيمية وابن القيم والمدرسة السلفية الوهابية الحنبلية، ويشير المهاجر في مقدمته إلى أن الكتاب "في الأصل: الباب الثاني من رسالة أخرى كبيرة بعنوان "الجامع في فقه الجهاد"، وهو الباب الخاص بـ "أحكام الدماء وما يتعلق بها"، وباستعراض أبواب الكتاب، نجد تطبيقاته واضحة ميدانيا، وتسري روح الكتاب في كافة خطابات زعماء تنظيم الدولة الإسلامية بدءا من الزرقاوي مرورا بإبي عمر البغدادي وصولا إلى أبي بكر البغدادي، إذ يؤسس الكتاب لنهج التنظيم وخياراته الفقهية.
يتناول الكتاب في المسألة الأولى حكم الأنظمة السياسية المعاصرة، ويصل إلى نتيجة مفادها أنها داخلة في حد الكفر والردة، ثم يستعرض الأحكام المترتبة كفرها وردتها وفي مقدمتها وجوب قتالها باعتبار أنها تحولت إلى دار حرب، ففي بحث "دار الحرب"، يقرر المهاجر أن كافة الدول في العالم وفي مقدمتها العربية والإسلامية دخلت في حد الردة والكفر، ويجب قتالها، فهو يقول: " وهذه الأحكام باقية حتى تعم الدعوة، وتبلغ الكلمة جميع الآفاق، ولا يبقى أحد من الكفرة، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة"، إذ يخلص المهاجر إلى القول: "انعقد إجماع أهل الإسلام كافة على أن دار الكفر: دار إباحة للمسلمين؛ فإذا دخلوها بغير أمان: فلهم التعرض لدماء الكفار وأموالهم بما شاؤوا".
وفي المسألة الثانية يتبنى المهاجر القول بأن لا عصمة من القتل واستحلال المال إلا بالإيمان، فعلّة جواز القتل لا ترتبط بمسألة المحاربة، إذ أن مجرد الكفر يعني الدخول في حد الحرب وجواز أو وجوب القتل، فهو يقرر بأن: "كل كافر لم يؤمّنه أهل الإسلام بعهد من ذمة أوهدنة أو أمان: فلا عصمة له في دم أو مال"، وقد بحث في المسألة الرابعة مشروعية اغتيال الكافر المحارب، وخصص المسألة الخامسة في جواز العمليات الاستشهادبة (الانتحارية)، وعلى الرغم من إقراره بأن المسألة بصورتها المعاصرة تعتبر من "النوازل"، إلا أنه يستدل على جوازها بحوادث متشابهة تاريخيا ونصوص قرآنية وأحاديث نبوية عامة، ويقرر بالقول: "ظهر بما سبق معنا: مشروعية العمليات الاستشهادية بصورتها المعاصرة بدون أدنى شبهة".
لا شك أن كتاب المهاجر لا نظير له في بحث كافة الوسائل الممكنة التي تفضي إلى القتل، فهو كما أطلق عليه "أحكام الدماء"، ففي المسألة الثامنة يبحث مشروعية رمي الكفار الحربيين بكل ما يمكن من السلاح وإن اختلط بهم من لايجوز قتله من المسلمين، وجاء في المسألة التاسعة مشروعية أعمال التخريب في أراضي وأملاك ومنشآت العدو، أما المسألة العاشرة فهي بعنوان مشروعية خطف الكفار الحربيين، وفي المسألة الحادية عشرة بحث في أحكام المثلة، وقد خصص المسألة الثانية عشرة في مشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين.
لم تكن الإيديولوجيا الدينية التي وضعها الناجي والمهاجر بشقيها النظري والعملي مجرد إرشادات وتوجيهات عامة، بل أصبحت تشكل دليلا ومنهاجا لحركة وسلوك تنظيم الدولة الإسلامية، وقد أخذت بعدا تطبيقيا في بيئة مثالية للعمل الجهادي في
العراق تحققت فيه شروط التوحش والفوضى من خلال الاحتلال الأمريكي الذي عمل على تفكيك بنى الدولة، وتفتيت بنية المجتمع على أسس هوياتية صريحة إثنية عرقية عربية كردية بصورة أساسية، ودينية مذهبية شيعية سنية بصورة رئيسية، فقد أجتمعت كافة الشروط والأسباب والظروف الموضوعية من الاحتلال الخارجي والاستبداد الداخلي.
تستند إيديولوجية تنظيم "الدولة الإسلامية" إلى أسس دينية مذهبية سنية، اعتمدت منذ تأسيسها على يد الزرقاوي مرورا بإبي عمر البغدادي وصولا إلى أبو بكر البغدادي، على مرجعية الشيخ أبو عبدالله المهاجر في فقه الجهاد وأحكام الدماء، وتصورات أبو بكر الناجي في إدارة التوحش، وقد ساهمت الظروف الموضوعية في خلق جاذبية قادرة على الاستقطاب والتجنيد، بحيث أصبحت إيديولوجيا تنظيم الدولة الإسلامية نموذجا إرشاديا لأكثر الحركات السلفية الجهادية في العالم نظرا لطبيعتها الهوياتية المتصلبة، وفعاليتها القتالية، التي تنبني على مفهوم جهاد التمكين، تتفوق على إيديولوجيا تنظيم القاعدة السياسية التي تنبني على جهاد النكاية، والأهم أنها تناهض الدولة القطرية السلطوية بنفس أدواتها القمعية وتتفوق عليها بالمرجعية الدينية.