بعد مضي أكثر من شهرين على بدء هجمات
التحالف الدولي الجوية على تنظيم الدولة الإسلامية، التي لم تحقق أهدافاً استراتيجية ميدانية كبرى، كانت الحملة الإعلامية المرافقة للضربات الجوية تسعى لتعويض الفشل الذريع، باصطناع انتصارات وهمية بطولية لحلفاء الولايات المتحدة المستقبليين من الكرد والمليشيات الشيعية والجيش الحر، وكان أحد أهم محاورها "عين العرب ــ كوباني" وأبطالها من حسان الكرد، والاحتفاء بوصول عشرات الشجعان من قوات "البيشمركة" إلى المدينة التي تتعرض لقصف جوي عنيف، أما مليشيات الحشد الشيعيّة فقد أعلنت عن تحرير الأمكنة ذاتها مرات عديدة في محاكاة طريفة لعقيدة "النسخ والبداء"، ولعل مغاوير الجيش الحر والحرس الوطني من السنّة هم الأكثر خسارة والأشد طرافة؛ إذ يصعب على أضخم آلات العالم الإعلامية منحهم بطولات تذكر، وانحسارهم وهزيمتهم محققة.
لعل واقع التحالف الدولي في الجو أحسن حالاً وأكثر اتساقاً رغم عدم فعاليته وجدواه بحسم المعارك والصراع، أما في البر فهو يتخبط ويمضي على غير هدى، فهو خليط هجين من المركبات الهوياتية الإثنية العرقية والدينية المذهبية والسياسية المتخيلة، التي لا تتوافر على أهداف محددة وخطة واضحة ورؤية موحدة، بل إن اختلاف أجندة هذه القوى وسياساتها الهوياتية السلطويةـ هو السبب الأساسي في تصاعد قوة تنظيم "الدولة الإسلامية" ونفوذه، فمسار المعارك على الأرض يكشف عن جوهر المشكلة في المنطقة، ففي الوقت الذي يتعاظم نفوذ إيران وتدخلات قاسم سليماني ومليشياته الشيعية، تتعامل الولايات المتحدة مع الأمر بواقعية فجة عبر رسالة "أوباما ــ خامنئي" وتنسق مع الغرفة العسكرية الأمنية المشتركة في بغداد، كما تفعل مع الكرد عبر الغرفة المشتركة في إربيل، أما السنّة فيعملون دون غرف عبر أبواب مهدمة وشبابيك مكسرة.
عقب انشغال العالم بالشائعات التي ترددت حول مقتل أو إصابة زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية"، أبي بكر
البغدادي، ظهر أخيراً في تسجيل صوتي صادر عن مؤسسة الفرقان بعنوان "ولو كره الكافرون" في 13 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014، يؤكد فيه فشل ضربات التحالف الجوية، في الوقت الذي كان فيه الكونغرس الأمريكي يستمع لشهادة وزير الدفاع الأميركي تشاك هيغل ورئيس هيئة الأركان مارتن ديمبسي، إذ أكد هايغل أن ضربات "التحالف الدولي ضد التنظيم ستتصاعد مع تحسن أداء القوات البرية العراقية وكفاءتها"، كما أن "هجوم مسلحي التنظيم في بعض مناطق العراق قد تم إيقافه، وهناك مناطق اضطرت قوات التنظيم إلى التراجع منها، جراء عمليات القوات العراقية والمقاتلين الأكراد ورجال العشائر، بدعم من الولايات المتحدة وحلفائها"، قال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارتن ديمبسي: إن العراق سيحتاج حوالي 80 ألف جندي ذوي كفاءة لاستعادة الأرض التي استولى عليها تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد واستعادة السيطرة على حدوده مع سوريا.
أما البغدادي فقد أكّد أن "ضربات الصليبيين الجوية وقصفهم المستمر على مواقع الدولة الإسلامية لم يوقف زحفها، ولن يفت من عزمها، وسيستمر زحف المجاهدين حتى يصلوا روما بإذن الله"، وأضاف: "وبرغم أن هذه الحملة الصليبية من أشد الحملات وأشرسها، إلا أنها من أفشل الحملات وأخيبها، ونرى أميركا وحلفاءها يتخبطون بين الخوف والعجز والضعف والفشل"، وأعاد البغدادي ما أكده العدناني الناطق باسم تنظيم الدولة منذ بداية الضربات الجوية، بأن قوات التحالف ستضطر إلى إرسال "قوّات برّية"، وقال: "عمّا قريب، سيضطر اليهود والصليبيون للنزول إلى الأرض وإرسال قواتهم البرية إلى حتفها ودمارها".
لقد كشف خطاب البغدادي عن إدراك التنظيم لطبائع الصراع المعقدة في المنطقة، وقدم نفسه خليفةً للمسلمين على أساس الهوية السنيّة الممتهنة، ولذلك كانت رسالته واضحة في تحديد أولوياته وتصوراته الدينية والسياسية، فخطاب الهوية واستراتيجياتها باحتكار تمثيل الإسلام السني ونزعه عن الآخرين، برزت عبر توعّد البغدادي للسعودية التي خاطبها بــ "آل سلول" بدلاً من "آل سعود"، وهي تسمية قدحية تشير إلى "النفاق" في المعجم الهوياتي الإسلامي، واعتبر البغدادي أن "حكام
السعودية هم رأس الأفعى"، وفي سياق تحديد نهج التنظيم الهوياتي والاستراتيجي الذي يرتكز على الهوية السنية وأولوية قتال "العدو القريب"، دعا "أنصار الدولة الإسلامية" إلى مهاجمة "الرافضة وآل سلول، قبل الصليبيين وقواعدهم"، وأكّد أن "طلائع الدولة الإسلامية" ستصل عمّا قريب كافة الأماكن، وقد حثّ البغدادي على مهاجمة الحوثيين في اليمن، و"تفجير براكين الجهاد في كل مكان".
وفي سياق البرهنة على فشل التحالف الدولي في العراق وسوريا، أكد البغدادي على تمدد التنظيم في بلدان عديدة وتوالي "البيعات" من جماعات ومجموعات وشخصيات إسلامية عديدة، إذ يقول: "إننا نبشركم بإعلان تمدد الدولة الإسلامية إلى بلدان جديدة، إلى بلاد الحرمين واليمن، وإلى مصر وليبيا والجزائر، ونعلن قبول بيعة من بايعنا من إخواننا في تلك البلدان، وإلغاء أسماء الجماعات فيها، وإعلانها ولايات جديدة للدولة الإسلامية، وتعيين ولاة عليها"، ولم يكن البغدادي يبشر بالتمدد جزافاً لأغراض دعائية مجانية، فقد بايعت فعلاً خمس جماعات جهادية في خمس دول عربية، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبا بكر البغدادي، "على السمع والطاعة"، في 10 تشرين ثاني/ نوفمبر 2014،وقامت مؤسستا البنيان، والبتار التابعتان لتنظيم الدولة،بنشر خمس كلمات صوتية، وبيانات مكتوبة، للجماعات الجهادية، التي انضمت إلى خلافة "البغدادي".
ولعل البيعة الأكثر إثارة جاءت من جماعة "أنصار بيت المقدس" التي تنشط في شمال سيناء المصرية، التي أصدرت بياناً صوتياً جاء فيه: "نعلن مبايعة الخليفة إبراهيم بن عواد القرشي على السمع والطاعة في العسر واليسر"، وأصدرت تعميماً بتغيير إسمها الى "ولاية سيناء"، وبثت شريطاً مصوراً في اليوم التالي لكلمة البغدادي في 14 تشرين ثاني/ نوفمبر بعنوان "صولة الأنصار"، يظهر تطوراً فائقاً في قدراتها القتالية وكفاءتها الإعلامية، يحاكي إصدارات تنظيم الدولة "صليل الصوارم" و"لهيب الحرب"، ويتضمن الشريط لقطات متقنة لعملية "كرم القواديس" التي نفذها التنظيم في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مستهدفاً نقطة التفتيش العسكرية في منطقة كرم القواديس قرب مدينة الشيخ زويد بشمال سيناء، الذي أودى بحياة 31 عسكرياً مصرياً.
بعد ساعات من بيان جماعة "أنصار بيت المقدس" انضمامها لتنظيم الدولة الإسلامية، نشرت المواقع التابعة للتنظيم ومنها "البنيان"، و"البتار"، أربعة بيانات تؤكد بيعتها للبغدادي، من السعودية، واليمن، والجزائر، وليبيا، وهي: بيان بيعة "مجاهدي جزيرة العرب" في السعودية، وبيعة "جند الخلافة" في الجزائر، وبيعة "المجاهدون" في اليمن، وليبيا، وكانت قبل ذلك قد ظهرت بيعات عديدة كبيعة خمسة من قيادات حركة طالبان باكستان.
لا شك بأن خطاب البغدادي يستند إلى قراءة تدرك أبعاد التناقضات التي تعصف بقوات التحالف جواً وبراً، فقد واجه وزير الدفاع الأمريكي هيغل أسئلة صعبة من النواب الأميركيين حول استراتيجية الحرب، حيث عبّر بعضهم عن شكوكهم حيال ما إذا كانت القوات العراقية قادرة على تولي مهمة دحر جهاديي تنظيم الدولة الاسلامية، بعدما انتهت محاولات واشنطن السابقة لتدريب الجيش إلى فشل، وهو ذاته كان قد اعترف بأن تنظيم "الدولة الإسلامية" يشكل أكبر تهديد من نوعه تواجهه واشنطن، وسبق أن أكد بأن تهديد "التنظيم" يفوق ما واجهته بلاده من تهديدات قائلاً بأن الدولة: "أكثر جماعه شاهدناها من حيث القدرات المتطوره والتمويل الجيد"، ومشدداً على أن التنظيم "ليس مجرد جماعه إرهابية، هم يجمعون بين العقيدة والقوة العسكرية المتطورة... لديهم تمويل جيد بشكل هائل، هذا يفوق أي شيء شاهدناه".
خلاصة القول أن البغدادي يدرك بأن قوات التحالف ترتكز على قوة الولايات المتحدة، وأن الآخرين مشاركتهم ليست فاعلة، وأن اعتماد الولايات المتحدة على قوات محلية حليفة كالأكراد والشيعة وبعض السنة لن تنجح، وسوف تضطر عاجلاً أم آجلاً إلى الاعتماد على قواتها البرية، كما أن قراءة البغدادي الهوياتية الإثنية الدينية السياسية للصراع تتمتع بمصداقية موضوعية، ففي الوقت الذي تثبّت فيه المكونات الشيعية من سيطرتها ونفوذها في العراق وسوريا بالاستناد إلى الراعي الإيراني، ويوسع الكرد من مكانتهم واستقلالهم، فإن المكون السنّي في العراق وسوريا لا يتمتع بإسناد ودعم استراتيجي حاسم من الدول السنيّة التي تقدم نفسها كياناتٍ علمانيةً تتعالى على الأسس الهوياتية، الأمر الذي يؤكده البغدادي عبر إبراز الهوية الدينية الإسلامية لدولته الإسلامية وخلافته السنيّة، وبهذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تعتمد على ذات الأسس الهوياتية والسياسية الخاطئة التي تبنتها منذ احتلالها للعراق عام 2003، كما أنها لا تزال تصر على دعمها للأنظمة السلطوية في المنطقة تحت ذريعة عقيدة "الاستقرار"، وعقدة فوبيا "الإسلام السياسي"، ولهذا نؤكد أن "الدولة الإسلامية" باقية وتتمدد.