عشية حصول حكومته على الثقة من
البرلمان الأطول عمراً في العالم، أطلق رئيس حكومة الكفاءات
اليمنية، خالد محفوظ بحاح، تصريحاً قوياً أكد فيه عدم رضوخ حكومته للمليشيا الحوثية المسلحة، في خطوة نظر إليها البعض على أنها مناورة محفوفة بالمخاطر، مع مليشيا باتت تقريباً، القوة المهيمنة الميدانية في العاصمة وفي عدد من محافظات اليمن.
ما كان لرئيس الوزراء أن يضطر إلى خوض معركة وجود مع مليشيا مسلحة، استباحت البلاد، مستفيدة من سانحة تاريخية، توفرت عندما سيطرت على رعاة المبادرة الخليجية حالة من انعدام الضمير، دفعتهم إلى أن يتعاملوا بانتهازية قذرة مع بلد هش ومليء بالأفواه الجائعة وبالبنادق المشحونة بالأحقاد والبارود.
من المؤسف أن نرى الحكومة اليمنية، تقف في هذه الأثناء في حالة عجز كامل عن مواجهة تحديات عميقة فرضها منطق
المليشيا، في بلد يشهد انتقالاً سياسياً يحتكم إلى مرجعيات قوية ومسنودة بتأييد وضمانة إقليمية ودولية، ومحمي بثلاث قرارات صادرة عن مجلس الأمن، آخرها صدر تحت الفصل السابع، وهي قرارات تشكل غطاء كافياً من الشرعية الدولية.
لقد خضع الشعب اليمني المنهك، لواحدة من أسوأ الترتيبات التي استهدفت ثورات الربيع العربي وإنهاء كل دور ممكن لحواملها السياسية، في الحاضر والمستقبل، ومحو كل النتائج المشرقة التي أفرزتها هذه الثورات على الصعيد السياسي.
وها هم نتيجة لهذه الترتيبات الخبيثة، يجدون أنفسهم أبعد من أي وقت مضى، عن دولتهم التي أقروا تصورهم الخاص بشأنها، عبر إجماع وطني استثنائي في مؤتمر الحوار. مسافةٌ طويلةٌ تفصلهم عنها، لا تُقاس بالسنين ولا بالأميال، بل بحجم الجهل والتخلف والإحباط الذي امتطته مليشيا قادمة من كهوف التاريخ المظلمة، في مسيرة أطفأت خلالها كل القناديل المضيئة، ودمرت تحت رايتها القرى والمدن الآهلة بالتعايش وبالتعدد وبالانتماء إلى وطن بدأ للتو يُدرك معنى أن يحتكم الجميع لـ"صاحبة الجلالة: إرادة الشعب".
ومع يقيني بالأثر الحاسم للجهل والتخلف في تمكين مليشيا مسلحة من السطو على إرادة شعب بكامله، فإنني أدرك أيضاً أن هناك عاملاً آخر حاسماً، يتمثل في تركز القوة العسكرية والسياسية والمال السياسي أيضاً في نطاق جغرافي وديموغرافي أضيق بكثير من اليمن الواسع والممتلئ بسكان يتطلعون إلى بلد متحرر من الهيمنة والشمولية والاستئثار بالسلطة.
في صنعاء يتركز الثقل العسكري والسياسي، ويتم تداول المال السياسي بشكل كبير جداً، وكل ذلك يمثل نتاج عقود طويلة من احتكار السلطة، ومن دعم إقليمي أخذ بأقصر الطرق وأيسرها للتحكم بالقرار اليمني، وهذا الدعم هو الذي أبقى الرئيس هادي في قصره حتى اللحظة، ولكن في الوقت نفسه أبقاه شبه معزول وفاقد السيطرة على الدولة.
إن حالة التركز للقوة وللمال السياسي، قادت وتقود إلى مسارين خطيرين أحدهما يؤدي إلى إعادة إنتاج سلطة جديدة ولكن تعتمد على أدوات الاحتكار والتحكم ذاتها، مع تغير في الممول الإقليمي والمهيمن الدولي. والآخر يؤدي إلى أن يتحول هذا التركز للقوة والمال السياسي، إلى منبع خطر للغاية لتغذية الصراع على السلطة، صراعاً قد يقتصر على المركز وقد يتحول إلى ما يشبه دائرة كبيرة، وهو ما نراه اليوم في أكثر من منطقة ملتهبة بالمواجهات المسلحة.
وهذا العامل نفسه هو الذي يفسر كيف أن رئيساً خرج من السلطة، قبل ثلاث سنوات فقط، بفعل ثورة شعبية عارمة، واستحق بسبب سلوكه السياسي المعرقل للتسوية السياسية في بلاده، أن يطلق دعوة لـ"مصالحة وطنية تجب ما قبلها ولا تستثني أحداً"، وقبل ذلك يملي على الحكومة أن ترفض تطبيق العقوبات المفروضة عليه، حتى ولو كان ثمن ذلك أن يقع اليمن بكامله تحت طائلة الفصل السابع والعقوبات.
إنه استفزاز لا يمكن احتماله، ولكن هذا يحدث في بلد مثل اليمن، فالرئيس السابق يعتقد أن لديه الفرصة لكي يتجاوز كل العوائق بما فيها القرارات الدولية والعقوبات الناتجة عنها، وأن يخلط الأوراق ويستعيد السلطة.
إنه يسعى بصفاقة لطي مرحلة من الكفاح المرير الذي خاضه اليمنيون في سبيل التخلص من دكتاتوريته، وما يزالون مصرين على إنهاء نفوذ المليشيا التي سخَّرَ كل إمكانيات الدولة خلال حكمه وبعد أن خرج من الحكم في دعمها وتمكينها، لكي تشكل في نظره استفزازاً كافياً لكل اليمنيين، وتقنعهم في نهاية المطاف بجدوى القبول بسلطته وسطوته.
لا يمكن لليمن أن تخرج من هذا المأزق، ومن هذا المنعطف الخطر، حيث تصادر المليشيا المسلحة دور الدولة، ويجادل رئيس مخلوع ومعاقب في سلامة نهجه السياسي، إلا بإجراءات تنهي هذه الحالة من تركز القوة والمال السياسي، وهي مهمة ستؤدي في نهاية المطاف إلى فرض منطق الدولة، وسيادة القانون وهذا غاية ما يأمله اليمنيون.