ساد الظن بأن المجتمع الدولي بلغ ذروة عجزه وعقمه في مقاربة الأزمة السورية، بسبب خلاف الولايات المتحدة وروسيا، على رغم أن الدولتين أظهرتا أقصى درجات التوافق والتواطؤ في هذا النزاع إلى حدّ التستّر على النظام السوري في استخدامه السلاح الكيماوي، أحد أسوأ الانتهاكات للقانون الدولي. لكن
مجلس الأمن قدّم نماذج أخرى من العجز في تعامله مع أزمات ليبيا واليمن والعراق وأوكرانيا. لم تكن هذه سوى إخفاقات جديدة للأمم المتحدة، ولها سوابق كثيرة في أفريقيا، بل إنها
تعاني فشلاً مزمناً في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين.
من الواضح أن السمة الراسخة حالياً هي صعوبة التدخل، بل استحالته، حتى حين تمسّ الحاجة إليه لوقف سفك الدماء، سواء باسم «الإنسانية» أو حقوق الإنسان أو بسبب «جرائم حرب» و «جرائم ضد الإنسانية». كانت المنظومة الدولية وسّعت مفاهيم التدخل لمواجهة ازدياد حالات الاستبداد المحصّنة بـ «احترام سيادة الدول» وعدم الاختصاص الدولي بشؤونها الداخلية، لكنها مفاهيم أخضعت للمصالح والانقسامات الدولية وطُبّقت بكثير من التمييز و «الكيل بمكيالين»، لذلك فهي لا تنفكّ تتلاشى وتتآكل.
ثمة خلل في النظام الدولي يستفيض كثيرون في شرح أسبابه وعناصره والكوارث المترتّبة عليه، ولعل الأهم أن الدول الكبرى راكمت تاريخاً من التجاوزات أضعف القانون الدولي هيبةً ونفاذاً، ومن حالات تغليب المصالح على القيم المعلنة لهذا النظام (الديموقراطية، حقوق الإنسان...)، فباتت سلطتها وبالتالي سلطة الأمم المتحدة أقل قدرةً على مواجهة التحديات الآتية من دول فاشلة متفاوتة الحجم جغرافياً وشعوباً، أو من «فضاءات سائبة من دون حكم»، حتى مع التلويح بالقوة أو باستخدامها فعلاً. وإذ لم تقدّر الولايات المتحدة مفاعيل غزوها أفغانستان ثم العراق، بهدف تغيير النظامين واستئصال
الإرهاب، فإن انعكاساته لا تزال تتفاعل إلى اليوم، بعدما جعلت من الإرهاب وتنظيماته لاعباً شبه معترف به، بحكم تأثيره في السلم والاستقرار.
وبالنظر إلى أداء مجلس الأمن حيال أزمات سورية وليبيا واليمن، فإن حتى محاربة الإرهاب لم تعد دافعاً حاسماً لتفعيل العمل الدولي أو لتصويبه. فالكل يقول إن الإرهاب وباء ينبغي القضاء عليه، والكل يعامله كأمر واقع ويحاول الاستفادة منه بأن تكون له يدٌ في نشره وتوظيفه. وهذا هو النمط الجديد من «الحروب بالوكالة» الذي تخوضه الولايات المتحدة وروسيا في استعادة مقيتة للحرب الباردة تجلّت أخيراً في أوكرانيا حيث لم تكن الأزمة «إرهابية»، لكن البروباغندا الروسية أضفت عليها مصطلحات الإرهاب لتعطي تدخّلها مشروعية. قبل ذلك كانت إرهاصات «الحروب بالوكالة» اشتعلت في المنطقة العربية، بعدما شكّلت الثورات والانتفاضات، وما تلاها من صراعات لترتيب توازنات جديدة داخل كل بلد، ثغرات للتدخل الخارجي الأميركي أولاً في مصر وتونس وليبيا فاليمن، ثم الروسي-الإيراني في سورية ولاحقاً-حالياً في اليمن. تغلغلت المجموعات الإرهابية (بمساعدات إقليمية ودولية شتى) في نسيج الثورات والانتفاضات، باحثة عن مكان لها في الصراع بين الإسلاميين والقوى التقليدية، بل فارضة مشروعها كما في حال تنظيم «داعش» الذي أقام أخيراً روابط وفروعاً في المغرب العربي بعدما أنجز عبثه بخرائط المشرق.
كانت التحوّلات العربية نقلت الحكم من نقيض إلى نقيض. وبمقدار ما ضغطت التدخلات الخارجية لترجيح استلام تيار الإسلام السياسي السلطة هنا وهناك معتبرةً أنه «بطل» الثورات وصانعها، بمقدار ما تجاهلت أن قوى هذا التيار ليست فقط غير جاهزة وغير مؤهلة لإدارة الدولة سياسياً وأمنياً واقتصادياً، بل الأهم أن المتدخلين تعاموا عن صلة الرحم الواقعية بين قوى التيار الإسلامي وبين الجماعات المتطرفة. وإذ قطع الإسلاميون «المعتدلون» تعهدات بضبط «المتطرفين»، فإن هؤلاء استغلوا ضعف الدولة وغياب الملاحقة القانونية والإفراج عن معتقلين لهم فأعادوا تنظيم صفوفهم وأنشطتهم، وكذلك تمايزهم ككيان مضاد للدولة.
بعد جريمة ذبح المصريين الأقباط على أيدي «داعش ليبيا»، كان النقاش خطيراً وفاضحاً، سواء من جانب ميليشيات طرابلس على أثر الضربة الجوية المصرية أو داخل مجلس الأمن. فالميليشيات التي حاولت الاستيلاء على الحكم في كل ليبيا، بالقوة ومن دون أي شرعية انتخابية، أسمعت صوتها للمرة الأولى حين انبرت لإدانة الغارة المصرية، ولم يكن قد صدر عنها أي موقف مناوئ لظهور «داعش» ولا لوجود مجموعات مرتبطة علناً بـ «القاعدة» في الكثير من المناطق، بل كانت ولا تزال متعايشة مع هذين التنظيمين كرافدين لها في معركتها ضد مجلس النواب المنتخب والحكومة الشرعية المنبثقة منه والجيش الوطني الموالي لهما. وهذه الميليشيات تريد على الأقل أن تكون لها حصة في الحكم، بل يراد لها أميركياً وبريطانياً أن تحتل موقعاً مهماً في السلطة من خلال حل سياسي تديره الأمم المتحدة بواسطة مبعوثها. وهذا ما تبارت الدول لتزكيته في مجلس الأمن، رافضة شمول ليبيا بعمليات «التحالف الدولي» على رغم وجود «داعش».
لم يكن ذلك سوى تكرار للخطأ المتعمّد الذي ارتكب في العراق أولاً، ثم في سورية واليمن. ففي كل هذه المحطات قيل ويقال إن الحل سياسي وليس عسكرياً، وكان الارهاب الرابح الوحيد من تعثّر هذا الحل السياسي أو تعذّره أو إفشاله أو ضرب مقوّماته. وفضّل المجتمع الدولي انتظار «داعش» كي يكبر ويستقطب ويسيطر ويتوسّع كي يواجهه بـ «حل عسكري» محض، متجاهلاً أن ما استجلب «داعش» هو صراعات الدول المعنية وفشلها في بلورة «الحل السياسي». وبذلك ارتسمت الإشكالية المرتبكة: هل يمكن إنجاز حل سياسي في غضون محاربة الإرهاب، وهل يمكن الخلاص من الإرهاب بتركيب حلول سياسية مبنية على أحكام الأمر الواقع، أم إن كل ذلك مجرد وسيلة لهروب المجتمع الدولي من مسؤوليات لم يعد قادراً عليها؟ ألا يكون «داعش» أو أشباهه، مثل روسيا أحياناً، أو أميركا أحياناً أخرى، معطّلاً لعمل مجلس الأمن كما بدت الحال لدى مناقشة الوضع الليبي؟
هذه الإشكالية فرضت نفسها في حالات الدولة الفاشلة (العراق وسورية واليمن) أو انهيار الدولة (ليبيا)، وكذلك حين يكون هناك وضع انتقالي (اليمن وليبيا) أو وضع ما قبل الانتقالي (سورية)، حيث استفحلت الأزمات واختلط فيها الجانب السياسي بصراع مسلح تقليدي وما لبث أن داخلها الإرهاب الموصوف. ففي العراق «عملية سياسية» موازية لحال إرهابية تسببت بها الدولة التي لم تحسّن أداءها بعد في الجانب السياسي ولا تزال تتلكّأ في المصالحة فيما يرعى أقطابُها الشيعة ميليشيات موالية لإيران وتنافس الجيش الحكومي، بل تتفوّق عليه. وفي اليمن كانت هناك «عملية انتقالية» وسط وضع مركّب (انفصاليون في الجنوب، «القاعدة» في الجنوب والوسط، وضغائن حزبية وقبلية في الشمال تغذّيها أجندة إيرانية تخريبية)، فتظاهر الحوثيون وحزب الرئيس السابق بأنهم شركاء في الحوار الوطني لا متآمرون إلى أن نضجت ظروف الانقلاب والاستحواذ على الدولة. وفي ليبيا أُسقط النظام السابق ورابطت الميليشيات في الشارع لمحاصرة محاولات إنهاض الدولة، شاركت في الانتخابات مرّتين وفشلت فلجأت إلى الترهيب، ونشأ إلى جانبها بعضٌ من أكثر مجموعات الإرهاب وحشيةً. وفي سورية جهد النظام في استدعاء الإرهابيين لتخليصه من شعبه، معتقداً أنه سيخرج منتصراً من إذكاء التطرف، وبعد أعوام أربعة مثقلة بالخسائر البشرية والاقتصادية والعمرانية لا يزال يأمل بالبقاء في سلطة بات معظمها الأكبر في أيدي الإيرانيين.
في كل هذه البلدان يسعى المجتمع الدولي إلى ضرب الإرهاب بقصد إنهائه، أو إضعافه، وفيها أيضاً قوى دولية وإقليمية تخوض صراعات ضارية تسليحاً وتمويلاً أو بالمشاركة المباشرة كما تفعل إيران في سورية والعراق واليمن. ولما كانت هذه الصراعات حالت دون معالجة سويّة للأزمات الداخلية التي صنعت الإرهاب أو استدرجته، فإنها هي ذاتها تجعل احتمالات القضاء على الإرهاب واهيةً جداً.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)