1-
ملثمون بملابس سوداء يلوحون بخناجرهم ويطلقون التهديدات، أمامهم أسرى منكسرون بملابس برتقالية يجلسون على ركبهم في انتظار مصيرهم المحتوم.
طبيعي أن يثير هذا المشهد المتكرر في إصدارات "
صليل الصوارم" التي ينشرها تنظيم "داعش" الرعب في نفسي، لكن الغريب أن أشعر بالرعب نفسه حين أشاهد إصدارات وزارة الداخلية التي تصور متهمين منكسرين وأمامهم ما يفترض أنها أحراز ضبطت معهم، وعلى وجوههم آثار إصابات، ويتحدثون بآلية عن مخططات لا تنبئ بها هيئتهم، وأحياناً يظهر خلفهم أيضاً ملثمون يرتدون ملابس سوداء، هذا عندما يحالفهم الحظ أصلا ويبقوا على قيد الحياة.
لا يرحم تنظيم داعش أسراه، فهل ترحم الداخلية
المصرية أسراها؟
2-
في 22 فبراير الجاري ألقت الشرطة القبض على المحامي كريم حمدي محمد، في اليوم التالي عُرض على النيابة التي أجلت التحقيق ليوم واحد انتظاراً لورود تحريات الأمن الوطني بشأن اتهامه بالانتماء لجماعة الإخوان.
كلفت نقابة المحامين عددا من أعضائها بحضور التحقيق مع زميلهم، وانتظروا إحضاره إلى النيابة يوم 24 فبراير إلا أنه لم يحضر رغم وصول جميع المتهمين الآخرين.
اكتشف المحامون أن زميلهم قد توفى داخل قسم المطرية وتم نقله إلى المشرحة، وهناك شاهدوا في جثمانه إصابات ظاهرة لم يتم إثباتها في التقرير الطبي.
تركت النيابة المتهم أمانة في قسم شرطة، فسلم القسم الأمانة إلى بارئها.
3-
يلتف عدد من أفراد الشرطة المدججين بالسلاح حول شاب عشريني مذعور أثناء إنزاله من سيارة الشرطة، وينهال الجميع عليه ضربا بالأيدي ودهسًا بالأقدام. الصوت الوحيد الذي أصدره الشاب وسط أصوات السباب والصفعات هو جملة واحدة "والله مليش دعوة". صوت إطلاق نار. بعد لحظات يظهر الشاب مصابا بطلق ناري وتسيل الدماء من قدمه بغزارة بينما يجره أفراد الشرطة. الشاب أيا كانت تهمته فهو أسير أعزل، تحت سيطرة الشرطة وفي عقر دارها ووسط العشرات من جنودها، إذن فلا خطورة منه مطلقاً.
كان أمام أفراد الشرطة عشرات الخيارات لإجباره على السير أو حتى حمله إلى الداخل، لكنهم لجأوا للخيار الأسهل. إطلاق النار عليه.
4-
كان "محمد. ع" يتلقى العلاج داخل مستشفى إمبابة العام تحت حراسة مشددة بعد اتهامه بمحاولة زرع قنبلة مطلع فبراير الجاري، فجأة سمع العاملون بالمستشفى صوت طلقات نارية داخل غرفة المتهم، وعندما دخلوا وجدوا أمين الشرطة المكلف بحراسته أطلق عليه سبع رصاصات فأرداه قتيلا في الحال.
كان المتهم طريح الفراش ولا يقوى على الحركة ويواجه اتهامات قد تقوده إلى الإعدام، لكن هذا لم يكن كافيا لإقناع أمين الشرطة بتركه لمصيره.
في التحقيقات قال أمين الشرطة إن المتهم استفزه بترديد عبارات مسيئة للجيش والشرطة ورئيس الجمهورية وقيادات الدولة، فلم يتمالك أعصابه. هو يعتقد أن ترديد كلام من هذه النوعية سيحميه من المساءلة، وللأسف أثبتت التجربة أنه يحمي بالفعل.
5-
في أغسطس 2013، وبينما كانت درجة الحرارة تقترب من الأربعين، كان 45 سجينًا داخل عربة ترحيلات ضيقة في فناء سجن أبو زعبل شمال شرق القاهرة، وبعد 6 ساعات كاملة من الانتظار تحت أشعة الشمس الحارقة كان الأكسجين قد تآكل، والعرق يعلو جميع الوجوه والأجساد.
سادت حالة من الهرج داخل السيارة وأخذ المتهمون يطرقون بقوة على جدرانها، ليس للمطالبة بإخلاء سبيلهم، ولا حتى لطلب شربة ماء تروي ظمأهم، لكن فقط لمطالبة قائد السيارة بالتحرك ليدخلها بعض الأكسجين، لكن هذا لم يعجب رجال الشرطة المحيطين بالعربة، فقد يلومهم رئيسهم على عدم إسكات مساجين في عهدتهم، إذًا يجب إسكاتهم فوراً. أطلقوا قنبلة من الغاز المسيل للدموع داخل العربة الحديدية المغلقة، الآن سكت المتهمون.. للأبد.
6-
ضع إلى جانب هذه الوقائع عشرات الوقائع المماثلة قبل وبعد الثورة، (إذا كان يوجد احصاءات عن عدد حالات الوفاة داخل اماكن الاحتجاز) ستعرف حينها أن سقوطك أسيرًا في يد الداخلية لا يختلف كثيرًا عن سقوطك أسيرًا في يد "داعش"، في الحالتين ستكون فرصك في الحياة محدودة للغاية، في الحالتين سيجد دراويش الطرفين تبريرًا (دينيًا/ قانونيًا) لقتلك، في الحالتين ستتحول إلى مجرد رقم في قائمة طويلة من ضحاياهما.
لم أجد فارقاً بين مشهد الجثث السوداء المتفحمة في سيارة الترحيلات وبين مشهد جثة معاذ الكساسبة المتفحمة بعد جريمة إحراق تنظيم داعش له.
أمام كل مرة نلوم فيها "داعش" على قتل أسراه، سنلوم الداخلية ألف مرة على قتل محتجزين تحت سيطرتها، فما يفعله تنظيم تضعه الدولة في قائمة الإرهاب، لا تفعله دولة تقول إنها تحارب الإرهاب، وإلا يستويان مثلا.
7-
"كل من يقبض عليه أو يحبس أو تقيد حريته تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامته ولا يجوز تعذيبه ولا ترهيبه ولا إكراهه ولا إيذاؤه بدنيا أو معنويا ولا يكون حجزه أو حبسه إلا في أماكن مخصصة لذلك لائقة إنسانيًا وصحيًا، وتلتزم الدولة بتوفير وسائل الإتاحة للأشخاص ذوي الإعاقة، ومخالفة شيء من ذلك جريمة يعاقب مرتكبها وفقا للقانون. وللمتهم حق الصمت. وكل قول يثبت أنه صدر من محتجز تحت وطأة شيء مما تقدم أو التهديد بشيء منه يهدر ولا يعول عليه".
ما سبق هو نص المادة 55 من الدستور المصري، لكنهم يلتفون على ذلك بالتأكيد على أنه عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي لا مجال للحديث عن
حقوق الإنسان، ويؤكدون أن ديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا هو قائل هذه العبارة. ورغم مسارعة السفارة البريطانية في القاهرة بنفي هذه الشائعة في بيان رسمي، وتوزيع النص الكامل لخطاب كاميرون الذي ألقاه يوم 15 أغسطس 2011 في "أوكسفورد شاير" عقب أعمال الشغب والنهب التي شهدتها بريطانيًا والذي زعم مروجو الشائعة أنه قال هذه العبارة خلاله، إلا أن الخبراء الأمنيين والمسؤولين الحكوميين المصريين ما زالوا يستشهدون بهذه العبارة حتى الآن، لأنهم بحثوا في التراث الإنساني فلم يجدوا قولًا يبرر إزهاق الأرواح بالشبهة، وبحثوا في التاريخ المصري فلم يجدوا أحدًا عوقب على الكذب.
8-
منظمة العفو الدولية تحدثت عن 121 حالة وفاة وقعت داخل أماكن الاحتجاز المصرية منذ بداية 2014، وكانت الأسباب تتنوع بين الحرمان من الرعاية الطبية والتعذيب، كما كان نصيب قسم شرطة المطرية وحده منها 9 حالات وفاة.
الأرقام مفزعة، وفي دولة مثل مصر لا تتيح حرية تداول المعلومات ويسيطر الجهاز الأمني على كل مفاصلها ولا تخرج ورقة واحدة دون أن تكون ممهورة بخاتمه، يمكن أن تكون حالات التعذيب التي حدثت في الخفاء، أضعاف الأرقام التي تمكن المراقبون من توثيقها.
كثيرون طالبوا بعد تنحي مبارك في 11 فبراير بإخضاع ضباط وأفراد الشرطة لعلاج نفسي لتجاوز آثار هذه التجربة التي توقعوا أن تترك أثرا بالغًا في نفس كل منهم، لكن الكل انشغل عن هذا المطلب وانشغل بملفات أخرى، وكانت النتيجة أن الانتقام من الثورة والمشاركين فيها والمتعاطفين معها أولى عند بعض الضباط من حماية الوطن ومحاربة الإرهاب الحقيقي. الآن ما زال ضباط الشرطة يحتاجون لعلاج نفسي لا ليحميهم من الإحساس بالضعف هذه المرة، ولكن ليحميهم من الإحساس بالقوة.
يتملكني الخوف فعلا من إجرام تنظيم "داعش"، رجاء لا أريد أن أخاف كذلك ممن يفترض أن يحمونا منه.