بين زمن (ما يطلبه
المستمعون) وزمن (ما يطلبه
المشاهدون) سرت مياه كثيرة تحت الجسر السوري وتغيرت كثير من العادات والتقاليد وأيضا الحسابات الجيواستراتيجية الإقليمية والدولية. ولم يعد خبر وصول أول إنسان إلى سطح القمر يدعو للاستغفار بل امتلأ الفضاء بالأقمار الاصطناعية وبالقنوات التلفزيونية التي صارت الملجأ المفضل للشعب رغم أن الفضاء ذاته امتلأ أيضا بقنوات لا تجيد غير بث عبارات الاستغفار على خلفية مطامح تجارية محضة، لا تجد حرجا في التركيز على تسويق منتجات تكبير المناطق الحساسة من الجسد البشري أنثويا كان أو ذكريا.
انتقلنا من زمن كان يجتمع فيه أهل القرى بالريف السوري، كما بقية أرياف الوطن العربي ومدنه، على جهاز راديو عتيق ينقل عبر أثيره رسائل العشاق وآمالهم وأغاني الحب المعبرة عن أشجانهم إلى زمن تتنافس فيه القنوات الإذاعية والتلفزيونية على الخصوص على نقل مآسي الحروب الأهلية التي تفتك بكثير من مناطق الجغرافيا العربية. لقد تحول الإعلام العربي من كونه مقبرة للحقائق وللآمال إلى حفار قبور يتلذذ بعرض جثث موتاه.
قدك المياس يا عمري يا غصين البان كاليسر
أنت أحلى الناس في نظري جل من سواك يا قمري
قدك المياس مذ مالا لحظك الفتان قتالا
هل لواصل خلد لا لا لا لا فاقطع الآمال وانتظري...
يُقطع الإرسال الإذاعي، وينطلق الناطق العسكري يعرض "تفاصيل" خبر عاجل عن هجوم إسرائيلي استهدف ضاحية دمشق وانتهى بإسقاط طائرة للعدو وفرار بقية السرب المغير.
يهلل القرويون للجيش العربي السوري البطل ويستنكرون وقاحة العدو الصهيوني. اليوم أيضا يقطع الإعلام المرئي برامجه المعتادة وقد لا يحتاج، فالشريط الإخباري معد سلفا ليتدثر باللون الأحمر إعلانا عن خبر عاجل، صار يشكل ترياق النجاة لرتابة أخبار الدم المسال هنا وهناك وفي كل مكان. لكن الناطق العسكري لم يعد مصدر الخبر الأوحد بل صارت المصادر متعددة، ولم يعد بالإمكان "الكذب" على المتابعين فصار الخطاب: "وتحتفظ قواتنا الباسلة بحقها في الرد في الزمان والمكان المناسبين". تمر الأيام والشهور والسنوات ليصير الزمان ممتدا وترتد أسلحة الجيش إلى صدور أبناء شعبه على امتدادٍ مكانيٍ، حدودُه في اتساع كل يوم، بعد أن كانت الأكذوبة الرسمية التي بنت عليها أنظمة القمع العربية شرعية "الممانعة" تدمير الكيان الصهيوني وتحرير الأرض العربية المغتصبة. "استمتعنا" بالاغتصاب وتلذذنا به وصرنا مشاعا مستباحا لكل راغب أو ذي نزوة عابرة للقارات.
جايبلي سلام عصفور الجناين
جايبلي سلام من عند الحناين
نفض جناحاتو عشباك الدار
متل اللي بريشاتو مخبي سرار وسرار...
تكشف الصبايا القرويات عن سيقانهن وهن في الطريق إلى بيت العم أبو جمال للاستمتاع بالجلسة الأسبوعية التي ألف سكان القرية التجمع خلالها حول جهاز الراديو في انتظار إذاعة أغانيهم. هي عادة، كما يبدو، دليل إحساس بالأمان والسلام. اليوم، لم يعد بإمكان الصبايا الكشف عن سيقانهن ولا المرح والغناء فالأمان والسلام صارا أبعد ما يكونان عن
سوريا. لم يعد الآخر رسول سلام ولم تعد العصافير تغرد بالأمان فقد تكفل النظام والتكفيريون وكثير من أبناء الوطن بالإجهاز على الأمل في مستقبل يصير السلام مفردة من مفرداته المتداولة. لم يعد في سوريا مكان إلا للدم والبراميل المتفجرة وقوانين الغاب مهما اختلفت المرجعيات وتعددت.
عسكرة المجتمع كانت اختيارا بعثيا خالصا. والقمع والاستبداد عنوانان ملخصان لسنوات حكم دامت ولا تريد أن تنتهي. سليم، شخصية محورية في الفيلم، أبكم لكنه يصارع للحديث والكلمة الوحيدة التي وفق في ترديدها كانت (حبيبي). الأبكم ما هو إلا رمز لغياب حرية التعبير ولجم الأصوات كلها مختلفة كانت أو غير ذات توجه. والنتيجة أن سليم/الأبكم رغما عنه، حول فضاء القرية إلى مجال لتجريب المتفجرات التي برع في تصنيعها و"زرع" المراوح الورقية في كل مكان. القهر يولد الانفجار، والانفجارات صارت طقسا سوريا يوميا عاديا. لقد انتقلت متفجرات سليم من مرحلة البدائية إلى ما نشهده اليوم إرهابا لا يستثني أحدا ولا يعترف بالآخر شريكا محتملا في الوطن. الإقصاء نهج يرتد على صاحبه كلما تمكن المقصي من السيطرة على الوضع أو على الأقل حين يتملك القدرة على المواجهة، والضحية وطن جريح ينزف أبناؤه شيوخا وأطفالا. أما المراوح فقد استطاعت أن تحقق هدفها وتشعل الحرب المستعرة على نار هادئة لن تبقي ولن تذر.
سكت الكلام والبندقية اتكلمت
والنار وطلقات البارود
شدت على ايدين الجنود واتبسمت
إحنا جنودك يا بلدنا وحبنا
ماشين على طول الطريق اللى رسمناه كلنا...
انضم ابن القرية جمال إلى الجيش ورُمِي به إلى ساحة المعركة دون تدريب أو تجهير عال يقيه "محرقة" القصف الجوي للعدو، ليعود إلى قريته كفنا محمولا على الأكتاف. لا يزال أبناء سوريا يُطلَبون للانضمام لصفوف القتال ولا يزال منهم من ينشق عن جيش النظام للالتحاق بصفوف جيش سوري حر وآخرون يغدون صفوف تنظيمات "جهادية" لا يعرف لها أب أو صاحب. ولا يزال أبناء سوريا، في نفس عمر جمال، يعودون في أكفان أغلبها اليوم من صنع محلي. نقل التلفزيون الرسمي في البدايات جنازات أبناء الريف السوري استدرارا لعطف الجمهور. لكن القتل صار مألوفا فانبرى ذات التلفزيون والقنوات الدائرة في كنفه يخفي الأعداد الحقيقية للقتلى من العسكريين والمدنيين على حد سواء. على الجانب الآخر تواصل الفضائيات عد القتلى في أخبار جانبية ربما لم تعد تغري الكثيرين. وحدها فيديوهات القتل البشعة لتنظيم داعش أخذت مكان الصدارة في العناوين والتحليلات. وبين هؤلاء وهؤلاء تواصل مراوح سليم الأبكم الدوران كطواحين تسحق سوريا وأحلام العشاق من شبابها.
أقبل الليل .. يا حبيبي ..
أقبل الليل وناداني حنيني .. يا حبيبي ..
وسَرت ذكراك طيفاً .. هام في بحر ظنوني ..
ينشر الماضي ظلالاَ .. كُن اُنساَ وجمالا ..
فإذا قلبي يشتاقُ إلى عهد شجوني ..
وإذا دمعي ينهالُ على رجع أنيني ..
ياهدى الحيران .. في ليل الضنى ..
أين أنت الآن .. بل أين أنا ..
ينقطع الإرسال ليفسح المجال للبيان العسكري يجتر نفس الكلام.
سكت الكلام والبندقية اتكلمت
والنار وطلقات البارود....
تشويش.... تشويش...