استيقظنا منذ أيام على جملة الإعدامات والمؤبدات التي يصدرها بعض القضاة، حتى إن قاضيا واحداً قد أصدر حكما بالإعدام على نصف من حكم عليهم بالإعدام في
مصر في العام الأخير، وإنه أصدر الإعدامات بما يزيد عن العالم كله في عامه الأخير، وأصدر من قبله قاضٍ في حكمين بـ"محكمة المنيا" تعدى فيهم من حكم عليهم بالإعدام الألف، وصار ذلك من الاستخفاف بحرمة النفوس في ساحات القضاء حتى صار ذلك سياسة، ومن جملة القول في هذا المقام فإن من استخف بالنفوس يمكن أن يستخف بأي شيء ما دون ذلك، ومن ذلك فقد شهدنا بالأمس محاولة إعدامات جديدة هذه المرة لم تكن في ساحات القضاء أو لأشخاص ولكنها كانت في ساحات التربية والتعليم، إعدامات جديدة من جملة
الاعدامات.. "إعدامات الكتب".
طالعت هذا الموضوع منذ الصباح الباكر ليوم "الاثنين" (13 نيسان/ إبريل 2015) على صفحات التواصل الاجتماعي ولكنني انتظرت لا أحاول أن أضع هذا كخبر إلا حينما قامت الصحف الانقلابية بالنشر المطول والتعليق على الحدث، وقد كان غرضي من ذلك أن يكون هذا التوثيق من إعلام الانقلاب لا من غيره، ولا شك أن هذا الموضوع يوضح السفه الانقلابي وكيف آلت الأمور لتطوع "عبيد" وزارة التربية والتعليم بالقيام بأمور تتسم بالجهل العميم والتجهيل الكبير وسفه ومجاملة وعمليات تعتيم، حتى وكأن الإعدامات والخراب يزحفان على كل شيء في بر مصر بعد الانقلاب، هذه المرة كانت "حفلة الإعدامات" لكتب في إحدى مكتبات مدارس وزارة التربية والتعليم.
تحت دعوى مكافحة العنف والإرهاب أحرقت مديرية التربية والتعليم بمحافظة الجيزة أكثر من خمسة وسبعين كتابا بمدرسة فضل بدعوى أنها تحض على العنف والإرهاب، ومن المؤسف حقا أن يتطوع بعض من الموظفين من العبيد يقدمون خدماتهم للنظام الانقلابي فيكونون ملكيين أكثر من الملك فهي كتب في عرفهم وفي تقديرهم تحض على العنف وتصنع الإرهاب ولا بأس من إضافة أن مؤلفيها هاربون في دولة قطر، وحملت المسؤولية لمسؤول التعليم بالمحافظة، وعلى الفور فإن إحدى الموظفات التي تشغل رتبة وكيلة وزارة قد شكلت من فورها لجنة أسمتها وبكل أريحية "إعدام الكتب في المدارس" فإذا كان القضاة يعدمون في ساحات القضاء فإن هؤلاء لا بأس أيضا أن يقوموا بإعدامات أخرى في ساحات المدارس.
مهمة هذه اللجان جرد المكتبات المتواجدة بالمدارس المتحفظ عليها والتابعة لتنظيم الاخوان، وقامت اللجنة من فورها وبالمرور على مدرسة فضل اكتشفت تنظيما إرهابيا من الكتب خارج كتب الدراسة تحاول أن تنغص على "الأمن القومي في وزارة التربية والتعليم" خاصة أن هذه الكتب من الممنوعات التي لا تتداول في مصر، ووفق قرار الاتهام فإنها تحرض على العنف ومؤلفيها هاربون في قطر، هذه التهم قرأناها من قبل في عالم الأشخاص لا في عالم الكتب والأفكار ولكن هذه الدولة حينما تقبض على طبيبة علقت دبوسا يحمل رمز رابعة، وطالبات يحملن بالونات صفراء، أو تلميذ صغير يحمل مسطرة عليها رمز رابعة، أو شخصا يحمل محمولا أو تابلت عليه بعض الأخبار هكذا قالوا فيه ما يتعلق بالإخوان، أو هؤلاء الذين يفتشون الطلبة في الجامعات وقد وجدوا مع أحد الطلاب رواية لجورج أورويل أو كتبا إسلامية تتحدث عن الجهاد، كل هذا حدث في بر مصر فلا تستغربن أن تعقد محاكم هذه المرة في وزارة التربية والتعليم في شكل لجان ومحاكم تفتيش تفتش على الكتب والأدهى من ذلك أن تقوم بحرقها.
المشهد الأخطر أن شبكات التواصل الاجتماعي قد حملت صورا لمسؤولة من مديرية التربية والتعليم بالجيزة ومدير المدرسة وهما يجمعان كتبا إسلامية وكتبا أخرى من التراث الإسلامي في فناء المدرسة ثم يقومون بحرقها بالكامل على اعتبار أنها تحرض على الإرهاب، في ذات الصورة سترى آخرين ومعهم أحد الطلبة يرتدون نظارات شمسية سوداء يرمقون تلك الكتب وهي تحترق وكأن لسان حالهم يقول "علشان تعرفوا إنكم تستاهلوا الحرق"، وفي المنتصف يقف المسؤولون كل منهم يحمل العلم المصري وكأنه في "مهمة مقدسة" ضمن الجهود التي يقوم بها البعض في حملات "تحيا مصر"، وتعدم الكتب، وفي طرف الصورة تبدو موظفة المكتبة وفي يدها ملف ربما يحمل أسماء الكتب المحروقة وعلى الأرض ثلاثة "كراتين" أُشعلت النار في إحداها وأُحيطت بجردلين من الرمال وبجانبهما طفاية حريق كل ذلك في استعداد لتنفيذ مشهد الإعدام، ولو رأيت أن ذلك قد تم في فناء المدرسة الذي خططوه خصيصا وكأننا في مباراة لكرة قدم وفي دائرة المنتصف وضعوا كل هذه الكتب والأدوات التي أشرت إليها، مشهد خطير يقوم فيه هؤلاء بمهمة مقدسة كما يرونها في إعدام الكتب، يبدو أن عشماوي واحد لا يكفي لإعدام تلك الكتب ولكن تتطوع وزارة التربية والتعليم ليسهم أكثر من عشماوي في عملية إعدام للكتب.
إلا أن المشهد الآخر والأخطر في هذا المقام تبدو مجموعة الكتب وقد حملت بعض العناوين والتي قررت اللجنة ـ وأنا متأكد أن هذه اللجنة لم تقرأ ولم تفحص لأنها لو راجعت القوائم لما حرقت منها شيء، وإلا فعليها أن تتهم كل هؤلاء المؤلفين بالارهاب بأثر رجعي؛ فهذا كتاب يتحدث عن دور المرأة ومكانتها في الإسلام، وآخر عن سعيد النورسي، وكتب أخرى تحمل عناوين متعددة، ولو تفحصت القوائم المكتوبة والتي أصدر هؤلاء حكما بالإعدام حيالها ترى فيها ما يندى له الجبين وتعرف أن وزارة التعليم ليس إلا وزارة للتجهيل، وأن وزارة التربية ليست إلا وزارة لانعدام المعايير والأخلاق والتربية، فهذا كتاب لشيخ الأزهر الأسبق الدكتور عبد الحليم محمود، وكتب عن الإصلاح الإسلامي، وكتب لصحفيين يحسبون على وجهتهم وطريقتهم وتولوا مناصب فى صحف الأخبار والأهرام والجمهورية، بل وصل بهم الأمر إلى أن يدرجوا كتبا صدرت عن المجلس القومي لمكافحة المخدرات تحارب الإدمان، ووجد هؤلاء الذين قادوا محاكم التفتيش على الكتب وإعدامها أن هناك بعض الكتب غير مطابقة للمواصفات وهي ليست مسجلة ضمن القائمة الوزارية لذا أمر المدير التنفيذي "الهمام"؟!، من ساعته باستبعادها وحذفها ووضعها بصندوق وتشميعها "حتى لا يكون هناك أي كتب مخالفة للقانون أو القائمة الوزارية"، بل إنني أتحدى هؤلاء أن يأتوني بأحد هؤلاء المؤلفين هاربا إلى قطر إلا أن يكون ذلك من التهم الرائجة التي يكذبون بها خصوصا وأن معظم المؤلفين الذين تضمنتهم كشوف الكتب قد فارقوا الحياة وانتقلوا الى رحمة الله.
في النهاية تبدو هذه المهزلة علامة من علامات الانقلاب وإنجازاته التى اعتاد عليها، حينما يتقرب هؤلاء دون فهم ودون إبطاء لإعدام الكتب لا بتنوير العقول وتربية النفوس، فقط تحولت وزارة التربية والتعليم إلى وزارة لإعدام الكتب والتحريق.
إضغط هنا