حينما يقع الاختلاف بين اتجاهات أهل
السنة في العقائد، والأصول المنهجية يظهر منهم من يعلن على الفور أن اختياره هو الموافق لأصول "أهل السنة والجماعة"، وأن أقوال مخالفيه خارجة عن أصولهم ومخالفة لمنهجيتهم.
ففي وقت سابق أثار كتاب "الحرية أو الطوفان" للسياسي والأكاديمي الكويتي المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور حاكم المطيري (سلفي إصلاحي) جدلا واسعا في أوساط سلفية عريضة، سارعت بعض تلك الاتجاهات إلى وصفه بالخروج عن منهجية أهل السنة والجماعة، ومخالفته لأصولهم.
ولبيان وجوه مخالفة أفكار المطيري لأصول أهل السنة والجماعة ومنهجيتهم، ألف الدكتور الكويتي حمد العثمان كتابه "الغوغائية هي الطوفان"، وحرصا منه على إضفاء شرعية "سلفية" على كتابه، فقد عهد إلى الفقيه السعودي المعروف الشيخ صالح الفوزان بكتابة مقدمة له.
الشيخ الفوزان في مقدمته لكتاب العثمان وصف أفكار المطيري التي طرحها في "الحرية والطوفان" بـ"المخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة في حثه على الثورة على الحكام بحجة ما عندهم من المخالفات التي لا تصل إلى حد الكفر...".
ولأن المطيري ينتمي إلى المدرسة السلفية نفسها، فقد قام بمناقشة الشيخ الفوزان والعثمان في سلسلة مقالات سعى فيها لإثبات أن ما طرحه في كتابه السابق هو من صلب أصول أهل السنة والجماعة، لكنها أصول مندثرة، وباتت الدعوة إليها والتذكير بها بدعة وضلالا عند المتأخرين، بحسب وصفه.
يتضمن لقب "أهل السنة والجماعة" تزكية ووصفا تشريفيا لمن حازه وانطبق عليه، لأن معيار الصواب والتوفيق في تبني المقولات العقائدية، والأصول المنهجية، هو موافقة ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وفقا لباحثين شرعيين.
فمن هم أهل السنة والجماعة؟ وما هي الصفات التي تحققت فيهم، فكانوا بها أهلا للاتصاف بهذا الوصف والافتخار بذلك اللقب، ومن لم يكن على مثل ما هم عليه كان محروما من شرف التحلي به؟ ومن أين اكتسب هذا اللقب سلطانه وسطوته؟
وهل للصراعات السياسية دور في نشوء هذا المصطلح وبلورته؟ وفي ظل تنازع السلفيين والأشاعرة والماتريدية لهذا الوصف، فمن الأحق منهم به ولماذا؟ وكيف أثر "احتكار" هذا الوصف على طبيعة العلاقة بين مكونات أهل السنة المختلفة؟
إطلاق عام وآخر خاص
وفقا للباحث الشرعي الأردني، الدكتور عصر محمد النصر، فإن مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق بإطلاقين، أحدهما عام والآخر خاص. فالأول يطلق في مقابل
الشيعة، والثاني يطلق داخل دائرة أهل السنة أنفسهم، وهو ما حدث فيه نزاع كبير.
وأوضح الدكتور النصر أنه على مر التاريخ لم يخالف أحد في أن طائفة أهل الحديث هم أهل السنة، وأن طائفتهم هي أخص المسلمين بهذا الوصف، لكن أهل الحديث (السلفية) لم يكونوا يرون الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة بالإطلاق الخاص.
وردا على سؤال "
عربي21" حول الصفات التي أهلتهم للاتصاف بذلك اللقب، فقد قال العصر إن أبرز تلك الصفات وردت في نصوص شرعية واضحة الدلالة، كحديث الافتراق المشهور والذي ورد فيه في سياق تحديده للفرقة الناجية قوله عليه الصلاة والسلام "ما أنا عليه وأصحابي" ولفظ "الجماعة".
وأضاف النصر: "فأهل الحديث هم من أخص المسلمين وأولاهم باتباع النبي عليه الصلاة والسلام، وتراثهم قائم على نقل ما كان عليه الرسول والصحابة والتابعون". أما الأشاعرة والماتريدية فإنما كان اتباعهم للقواعد التي وضعوها لدراسة العقائد (علم الكلام).
ونفى النصر وجود أصول خاصة بأهل السنة والجماعة – بإطلاقه الخاص – في السياسة يتميزون بها، لأنهم يشتركون في ذلك مع الأشاعرة والماتريدية في جملة الأحكام المندرجة تحت ما يسمى بـ"الأحكام السلطانية"، فلا فرق بين ما كتبه الأشاعرة والحنابلة في السياسة الشرعية.
وأكدّ الباحث الشرعي النصر أن مصطلح "أهل السنة والجماعة" شرعي محض، وأن كل مفردة من مفرداته عليها أدلة شرعية، نافيا أن يكون للسياسة أي أثر في نشوء العقائد، وإن كان الساسة قد استفادوا من تلك المقولات العقائدية، ووظفوها لحساباتهم السياسية.
إنتاج ظروف سياسية بحتة
برؤية نقدية مغايرة رأى الباحث التونسي، الدكتور جلال العوني، أن مصطلح "أهل السنة والجماعة" هو نتاج ظروف سياسية محضة، حاله في ذلك حال الاختلافات التي وقعت في تاريخ الأمة مبكرا، لأسباب سياسية بحتة تدور حول مسألة
الخلافة، ومن يحكم المسلمين.
وأوضح العوني أن القراءة التاريخية للخلافة الراشدة تبين أنها "دشنت عهد الفتن والتمزق والانشقاق لأسباب سياسية.." شارحا ذلك بقوله: بدأت بذور التمزق والانشقاق منذ مبايعة الخليفة الأول أبي بكر والذي اندلعت في عصره "حروب الردة" وهي تعبير عن رفض كثير من القبائل الانصياع للسلطة المركزية للدولة الناشئة والمتمثلة في خلافة أبي بكر، والخلاف هنا سياسي بحت وفقا للعوني.
واستحضر العوني أحداث الفتن الكبرى التي اندلعت في زمن عثمان بن عفان، ومن بعده علي بن أبي طالب، والتي كانت لأسباب سياسية محضة، مع الانسجام التام بشأن أسس العقيدة والشعائر الدينية والشرائع، والتي لم تمثل قط نقطة خلاف بين الفرقاء، ما يعني أن سبب التمزق والفتنة هو السياسة وليس الدين.
وأضاف العوني إن الخلاف السياسي أفرز تجاذبات تولدت عنها مواقف سياسية تسببت في نشوء فرق ومذاهب عقائدية عوضا عن أحزاب سياسية، ما دفعهم لإقحام القرآن الكريم والشرعية الدينية في صلب خلافاتهم السياسية.
ووفقا لقراءة العوني، فبعد الأحداث التي تلت تنازل الحسن بن علي سنة 40 هـ عن الخلافة لمعاوية، وما صاحبها من تنامي حركة الخوارج، وظهور حركة الشيعة من أتباع علي الذين لم يسلموا بالخلافة لمعاوية، بدأت إرهاصات تمييز المجموعة المنحازة لمعاوية في مقابل الخوارج والشيعة، والتي أطلق عليها في عقود لاحقة اسم "أهل السنة والجماعة"، للتميز عن الفرق والاتجاهات الأخرى، بسبب اختلافاتها حول مسألة الحكم السياسي، ولا خلاف إطلاقا بين الفرقاء حول أي مسألة عقائدية أو تشريعية أو تعبدية طبقا للعوني.
نحو إضعاف سلطة المصطلح
أين تقف اتجاهات أهل السنة الأخرى كالأشاعرة والماتريدية في منازعتها للسلفيين على هذا اللقب؟
يرى أستاذ الحديث النبوي وعلومه في جامعة الزرقاء الأردنية، الدكتور أسامة نمر أن مصطلح "أهل السنة والجماعة" لم يرد في القرآن الكريم والسنة وإنما هو لقب اصطلاحي تعارف عليه المسلمون في فترة تاريخية معينة.
وبين الدكتور نمر أنه تم الاصطلاح في إطار أهل السنة على تسمية من يؤمنون بمنظومة عقائدية محددة بأهل السنة والجماعة، فهو اصطلاح خاص، ولكل مدرسة أن تسمي نفسها بما تشاء، كما أنه سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد.
واعترض أستاذ الحديث النبوي وعلومه الدكتور نمر، على احتكار السلفيين لهذا اللقب، لأنه يرى أن الأشاعرة الذين ينتسب إليهم هم أهل السنة والجماعة على الحقيقة، مؤكدا أن العبرة بالمعاني وليس بالأسماء، والمعول عليه هو الأدلة وليس الدعاوى.
وردا على سؤال "
عربي21" حول تداعيات احتكار هذا اللقب في واقع المسلمين، قال الدكتور أسامة إنه لا ينبغي أن يتجاوز هذا الأمر دوائر الخلاف العلمي الأكاديمي، من غير أن يترتب عليه مواقف عقائدية أو عملية، ولا ينبغي أن يستخدم كسلاح في مهاجمة المخالفين والتضييق عليهم.
ودعا نمر إلى التقليل من سلطة هذا المصطلح بين المسلمين، بسبب ما نتج عنه من تدابر المسلمين، ومقاطعة بعضهم لبعض لأسباب دينية، تحت عناوين هجر المبتدع ومقاطعته، وادّعاء كل طرف أنه الممثل الحقيقي لأهل السنة والجماعة، وغيره من أهل الانحراف والضلال، والرجوع إلى ما سماهم الله به ورضيه لهم في قوله تعالى: {هو سماكم المسلمين من قبل}.