بدا الأمر كما لو أنه كان "اكتشافا"، وكأن وجود "مصورة" في إحدى الصحف
المصرية، لها علاقات أمنية بشكل يدفعها لأن تشي بزميلها "المصور" في إحدى الصحف الأخرى، أمر غير مسبوق. فاحتشد الصحفيون لاستنكار تصرفها المشين، على نحو دفع بنقابة الصحفيين للتدخل. ولأن المتهمة بالوشاية، ليست عضوا بالنقابة، فقد كان القرار بمنعها من دخول المبنى والطلب من الصحيفة التي تعمل بها سرعة التحقيق معها، رضوخا لاتساع دائرة الغضب على هذا التصرف الذي يسيء للمهنة وللعاملين فيها!
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد تدخل نقيب الصحفيين "يحيي قلاش"، للدفاع عن "المصور" الضحية، رغم كونه ليس عضوا في نقابة الصحفيين، بشكل تسبب في الإفراج عنه بكفالة مالية على ذمة الاتهامات الموجهة إليه، ومنها أنه عضو في جماعة الإخوان المسلمين، وكانت تصريحات صحفية منسوبة للنيابة العامة، قد لوحت بتطبيق أحكام قانون نقابة الصحفيين على "المتهم"، لأنه يمارس مهنة الصحافة دون أن يكون عضوا مقيدا في جداول النقابة، وهي تهمة عقوبتها السجن والغرامة، أو بإحدى هاتين العقوبتين!.
ظاهرة "الصحفي
المخبر"، الذي يعمل لصالح الأجهزة الأمنية ليست جديدة على الوسط الصحفي، ولقد عشت زمانا كان فيه مثل هذا الاتهام كفيلاً بتسببه في أزمة، مع من يجري اتهامه به، ولو كان هذا صحيحاً، إذ كانت العمالة للأجهزة الأمنية مما تفقد الثقة والاعتبار. وعشت زماناً كان هناك من يتفاخرون بعلاقاتهم الأمنية دون أن تكون هذه العلاقة قائمة، ومن باب الافتعال، وكان الصحفيون الأمنيون معروفون في الوسط الصحفي وفي المؤسسات الصحفية، سواء عندما كان يمثل هذا دليل فخر، أو عندما كان يلحق العار بصاحبه، حتى اذا قامت الثورة، كان هؤلاء أكثر تشددا في إظهار رفضهم للنظام البائد!.
لست مطلعا على الأمر بعد الثورة المضادة في 30 يونيو، ومن الطبيعي في ظل حكم العسكر، أن يعود هؤلاء يفخرون بعمالتهم، وبعلاقاتهم الأمنية، وإن كانت ردة فعل الجماعة الصحفية على ما أقدمت عليه مصورة جريدة "اليوم السابع"، أكد أن الروح عادت لتدب في الجماعة الصحفية، بعد عامين من الفتنة، التي تصرف فيها نقيب الصحفيين السابق على أنه جزء من الانقلاب العسكري، ولم يكن مفاجأة أن يصطحب مجلس النقابة، لمقابلة من عُين رئيسا مؤقتا في الأسبوع الأول له في لفتة لا تُخطئ العين دلالتها!.
وكان سقوطه، ونجاح منافسه "قلاش"، في الانتخابات الأخيرة، كاشفا وليس منشئا "لعودة الروح" ، صحيح أن "قلاش" ليس في عداء مع دولة 30 يونيو، لكنالنقابي فيه هو الأبرز، في حين أن السياسي في "ضياء رشوان" هو الغالب، والذي كان سقوطه انهاء لمرحلة التبعية، غير مدفوعة الثمن، إلا باعتبارها وسيلة للتقرب للسلطة الجديدة بالنوافل.
هناك قصة رائجة، منسوبة لنقيب الصحفيين الأسبق أحمد بهاء الدين، وقد قرأتها في مذكراته "محاوراتي مع السادات"، حيث روى أنه استنكر على وزير الداخلية، ورئيس الوزراء فيما بعد "ممدوح سالم"، أن يستمعوا لصحفيين ليس لهم مكانة في الوسط الصحفي، ويقومون بالوشاية ضد زملائهم لوزارة الداخلية، وهم محتقرون في الوسط، لكن الوزير رد عليه بأنهم يعلمون هذا، ويعلمون أن شخصا "ابن ناس" ومتعلم تعليما جيدا، ومتمكن في مهنته، لا يمكن أن يقبل موقع العميل للأجهزة الأمنية.
ويبدو أن الوزير تورط بدون أن ينتبه لهذا الازدراء لعملائه، فضحك وضحك النقيب طويلاً على ما قال. ولم يعش "أحمد بهاء الدين"، المرحلة التي كان فيه "العملاء" يفخرون بعلاقاتهم الأمنية، وباتصالاتهم بدوائر الأجهزة، مقابل تمكينهم من بعض المواقع الصحفية المتقدمة، وانجاز بعض الطلبات البسيطة، وقد سمعت أحد ضباط مباحث امن الدولة السابقين، وكان يراقب النشاط الطلابي بجامعة القاهرة، أنه كان يصرف مكافأة شهرية للمخبرين. ولأن فكرة الدعم المالي لم تكن قائمة مع الصحفيين المخبرين، فقد كان يتم تقديم العون المالي بتوفير فرص عمل لهم في بعض الأماكن، ولم يعد سراً أن موقع "اسلام أون لاين" الذي كان يعمل من القاهرة، وفر فرصة عمل براتب مجز، لواحد من هؤلاء، رغم أنه بحكم التوجه فانه لا يجوز له العمل في موقع إسلامي. وتنفيذ مثل هذه الطلبات هي المبرر لمنح الترخيص لموقع أجنبي بالعمل في القاهرة!.
وعندما عرفت مصر الصحف الخاصة الثرية، فقد كانت فاتحة خير على بعض المخبرين، وليس كلهم فهناك من قنعوا بمجرد العلاقة مع الأجهزة الأمنية، دون أن يتقاضوا ثمنا كبيرا لذلك إلا من بعض "الخدمات" الصغيرة، مثل الإفراج عن قريب تم القبض عليه، بشكل يظهره في محيطه بأنه صاحب نفوذ.
وحدث أحيانا أن تم "بيع العملاء"، كعربون محبة مع قياداتهم الصحفية، ورُوي أن نائب رئيس تحرير لإحدى الصحف دخل ذات يوم المؤسسة غاضبا، وهو يسب أحد المحررين الشبان، ويلقي في وجهه التقرير الذي كتبه فيه، ويخبره أنه أخطأ العنوان فاذا كان هو "مخبر" لدى الجهاز، فقد فاته أن يعلم أنه "لواء" فيه!.
وأحيانا يكون "بيع العميل" لسبب مرتبط بخلافات بين الدوائر الأمنية، كما حدث عندما نشب خلاف بين وزير الداخلية حسن الألفي، ورئيس جهاز مباحث أمن الدولة، "أحمد العدلي"، فقد كان الأخير يعمل مباشرة مع رئيس الحكومة حينئذ كمال الجنزوري، الذي كان بينه وبين الوزير ود مفقود، وبدأ يتردد أن "العدلي" هو وزير الداخلية القادم، فوضع الرجل الداهية في الوزارة والحاكم الفعلي فيها اللواء رؤوف المناوي، خطة للإطاحة به، ولكي يتغديا به قبل أن يتعشى بهما!.
وقد رويت الواقعة من قبل، لكن لا مانع من إعادة ذكرها من باب أن الشيء بالشيء يُذكر..
مما قيل أن وزير الداخلية، أخبر مبارك بأن لديه معلومات تفيد أن رئيس الجهاز كلف من يعد له تقريرا عن نشاط نجليه جمال وعلاء مبارك، وأن معلوماته أن هذا التقرير على مكتبه، وحدثه مبارك إن كان بإمكانه أن يأتي له بهذا التقرير، ووعد الوزير بقدرته على ذلك!.
وفي اليوم الموعود، وعندما انصرف "العدلي"، إلى منزله، انطلق الوزير وتابعه المناوي، حيث مكتب رئيس الجهاز من خلال ممر يربط بين الوزارة والجهاز. واقتحما المكتب، ومن هناك اتصلوا بالرئاسة ليخبرا الرئيس أنهما عثرا على التقرير وأنه في حوزتهما. وقد روى لي مقرب من "أحمد العدلي" قبل وفاته، أنه لم يكن هناك تقرير من الأصل، وأنهما من كتبا التقرير وأخبرا مبارك بأنهما عثرا عليه في مكتبه!
أقيل "أحمد العدلي"، وأصيب بأزمة صحية على إثر هذا، ولم يعمر طويلاً ومات، وكتب قيادي بمؤسسة قومية مقالاً عنيفا ضد الوزير الذي أقال صاحب الخبرة الأمنية الرفيعة. وردت الوزارة على طريقتها بأن دفعت أحد رؤساء تحرير الصحف الحزبية بالهجوم على الصحفي، ثم تدخلت لتصلح بينهما، وقدمت لهم "عربون محبة" قال الوزير إنه عثر عليه في مكتب "أحمد العدلي"!
كانت الهدية هي تقرير كتبه صحفي معروف بمؤسسة صحفية أخرى، بخط اليد، وكان يرصد فيه توجهات بعض الصحفيين، فهذا ناصري له علاقة بصدام حسين، وذاك قومي عربي يرتبط بعلاقة مع القذافي، وتم النشر تلميحا لهذا التقرير، في الصحيفة التي أيدت الوزير، والأخرى التي هاجمته، في معرض التشهير بالصحفي المخبر، وإن لم يتم ذكر اسمه، ولكن ذكرت أوصافاً لا تنطبق إلا عليه!.
وفي الواقع أن العلاقة بين الصحافة وأجهزة الأمن شهدت تطورا وصل حد أن صارت العمالة وجهة نظر، وسبباً للفخر، فبعد مرحلة التوجس، شهدت وزارة الداخلية تغيراً في المعاملة في عهد ما بعد زكي بدر وزير الداخلية "المنفلت"، وانتهت بأن صحفيين كانوا محسوبين في مرحلة معينة على المعارضة كانوا يكتبون لمجلة "الشرطة"، التي تولى منصب رئيس التحرير بها، رئيس تحرير "الوفد" السابق "سعيد عبد الخالق"، وهو الذي وصل العداء بين جريدته ووزارة الداخلية أن لفقت له قضية رشوة من مسؤول يمني سابق هو عبد الرحمن البيضاني. وليس مفاجأة أن من كان يكتب في هذه المجلة وبمكافآت خيالية "جمال الغيطاني" و"صلاح عيسي"، وهو أمر لو حدث قبل هذا بعشر سنوات فقط، لكان ما أقدموا عليه مما يسيء للكرامة المهنية، لكن سنوات مبارك الأخيرة، كانت استقامة السلوك، مما يدخل في باب التزمت الذي تجاوزه الزمن!.
لا أقول أن هؤلاء الذين تمت مكافآتهم بالكتابة في مجلة "الشرطة" ينتمون لفصيلة الصحفيين المخبرين، فما قصدته أنه جرت في النهر مياهاً كثيرة لم تجعل من العلاقة مع أجهزة الأمنية "عورة" يسترها المرء بطرف ثيابه، ولم يعد العمل "مخبراً" مما يفقد الثقة والاعتبار، وفي الواقع أنه ليس كل المخبرين كانوا يوشون بزملائهم للإضرار بهم، فقد كان بعض ما ينقل هو معلومات لا تمثل جريمة، على عكس مما هو منسوب لمصورة "اليوم السابع"، وبعض هؤلاء "المخبرين" كانوا ظرفاء، فلم تكن علاقاتهم الأمنية سببا في القطيعة معهم، فماذا يفعل الصحفي حتى يخشى عليه من عميل يكتب تقارير لفائدة الأجهزة الأمنية!.
في مذكراتي، واقعتان فقط في هذا الصدد، عندما احتدم الخلاف بيني وبين حبيب العادلي، فتصرف معي على أنني إما صرت دولة تناطح الدولة التي يعمل فيها وزيرا للداخلية، أو تقزمت الدولة لتصبح في حجم فرد هو أنا!.
الواقعة الأولى، عندما احتشد بعض الزملاء في الجريدة التي كنت اعمل بها نائبا لرئيس التحرير، وكان من رأيهم ضرورة أن يحدث تداولاً للسلطة يتيح لهم تولي المناصب القيادية، فذهبوا إلى هناك فلم يجد حديثهم قبولاً، وفجأة تفتق ذهن أحدهم عن فكرة جهنمية يستولي بها على أسماعهم!.
كان محاسب بالجريدة في معرض ادعائه للأهمية قال إن في حوزته مستندات كثيرة تكشف مخالفات مالية لي، ولم يكن لي "توقيع مالي" حتى أرتكب مخالفات، بل كنت قد توقفت قبل سنوات عن "التوقيع الإداري"، بعدما وافقت على طلب زميل بإجازة مرضية، ولم أكن أعلم أن هذه الإجازة لها طرق أخرى غير أن المريض يقدم طلبا فتوافق عليه رئاسته العليا!.
عندما قال "الزميل" إنه يملك مستندات تدينني ماليا، ومال الصحيفة في حكم المال العام، برقت عينا ضابط أمن الدولة، وعاد ليسأله إن كان متأكدا مما يقول؟.. ولما كانت الاجابة بنعم، فقد ضرب لهم موعدا يكون الواعد قد أعد المستندات الدالة علي ما يقول!.
وفي اللقاء المضروب قدم له المستندات فإذا هي تكشف عن مكافأة أتقاضاها بجانب راتبي، شأن كل الزملاء الذين يعملون عملاً إضافيا.
سأل الضباط: هل قرر هذه المكافأة لنفسه. فكان الرد بـ"لا"، فأصيب بخيبة أمل نتج عنها إنهاء اللقاء، ولم يكونوا مخبرين محترفين، ولكنهم كانوا في زمن ذابت فيه الحدود بين الأشياء، فصاروا لا يجدون غضاضة في القيام بدور الوشاة!
الواقعة الثانية، عندما تقرر أن أكون رئيس تحرير سري لإحدى المطبوعات بعد الاعتراض على تولي منصب رئيس التحرير بشكل طبيعي، كيف أبلغ صاحب القرار فيها بأن هناك من أبلغوا "الأجهزة" بممارستي للعمل، ولأنه كان حديث عهد بالعمل السياسي والصحفي، فقد بدا مضحكا وهو يعلن في دهشة أنه لم يكن يعلم أن جريدته مخترقة أمنيا، وأقنعته بأن هذا امر معلوم بالحياة العامة في مصر بالضرورة. وعندما قال إنه سيحاول معرفة من الواشي؟ قلت له إن الأمر لا قيمة له فلن يكون الوحيد في المكان!.
ما علينا، فقد اعتبرت أن طلب نقابة الصحفيين، من جريدة "اليوم السابع" التحقيق مع "المصورة" المتهمة بالعمالة لأجهزة الأمن هو نوع من الطيبة المتناهية، فكيف يمكن إثبات الاتهام؟ فلا توجد هوية مخصصة لمن يعمل في هذه المهنة سيئة الصيت. وقد حدث بعد أيام أن هزمت الصحيفة النقابة بالضربة القاضية عندما طلبت منها الأدلة على الاتهام، في معرض اسباغها للحماية على المتهمة، على نحو تذكرت معه واقعة قديمة!.
كان قيادي بأحد الأحزاب قد كتب تقريرا لجهاز أمني في رئيس تحرير صحيفة الحزب الذي عين حديثا، والذي كان يقدم خطاباً يحسبه الجاهل معارضا، وبمجرد وصول التقرير للجهاز صار في حوزة رئيس التحرير، الذي قدمه لرئيس الحزب، مع تأكيد بأن التقرير قدم لجهاز الأمن القومي، الذي لم يكن من لهم علاقة به يصنفون على أنهم "مخبرون" على عكس العلاقة مع جهاز أمن الدولة!.
وأنكر كاتب التقرير صلته به، لكن رئيس الحزب لم يكن يساوره شك في أنه كاتبه، وقد قدر لي أن أطلع عليه، فوجدته مكتوبا بنفس أسلوبه، وإذا كان قد درج أن يكتب مقالاته على "الآلة الكاتبة"، فلم نكن قد عرفنا أجهزة الكمبيوتر، فقد راعني أنه استخدم اللون الأحمر لتمييز ما يعتقد أنه مهم كما يفعل في مقالاته التي يتم صفها للنشر بالجريدة بدون ألوان!.
وبعد اجتماع عاصف، شكل رئيس الحزب لجنة تحقيق معه لتبدأ عملها حالاً، وغادر إلى منزله، وفي المساء اتصل بالحزب ليطمئن على سير الأمور كما أراد، فوجد اللجنة لا تزال مجتمعة، ورئيسها وهو رجل قانون يعلن عجزه عن اثبات الاتهام مع إنكار المتهم، فالتقرير ليس مكتوبا بخط اليد. ومن الواضح أن القانوني لم يفهم دوره، فغضب رئيس الحزب وحضر في التو ليتخذ قرارا بفصل كاتب التقرير، وهو قرار باطل قانونا، لكن من حسن الحظ أن قرارات رؤساء الأحزاب ليست خاضعة لرقابة القضاء الإداري!.
وأخيرا، فإني أود التمييز بين العلاقات الطبيعية التي تربط الصحفي بالمصدر ولو في جهاز أمني وبين العمالة عندما يكلف العميل بكتابة التقارير في زملائه، وقد يكون قد قدم لمهنة الصحافة عميلاً جاهزا، وقد تكون عمالته هي التي ألحقته بها، وهي علاقة كفيلة بأن تحول "المنجد" إلى "صحفي" مع الاحتفاظ بوظيفته الأولى بالترقي فيها، فلا يليق بالصحفي أن يعمل "منجدا" لدى عامة الشعب، فهناك "منجد" معروف، وقد أصبح بعد التحاقه بمهنة الصحافة يعمل "منجدا للفنانات"، وكان قبل الثورة يفخر بأن يعدد أسماء الفنانات اللاتي قام بتنجيد فراشهن، ولم أتذكر منهن الآن سوى "حنان ترك"..
في واقعة المصورة، لست منزعجا لعدم القدرة على إثبات الاتهام، فماذا سنكسب لو خسر المخبرون واحدا؟ فما أسعدني هو عودة الروح لنقابتي العريقة.