كتاب عربي 21

الجمهور عاوز كدة

1300x600
في كل مرة تقتل فيها سلطة أو تظلم منذ 25 يناير وحتى الآن لم أكن أتوقف كثيرا أمام سلوكها، فالطبيعي أن تحاول أي سلطة تنتمي إلى العالم الثالث أن تثبت أركانها عن طريق القضاء على من تراهم خصومها، بالقتل أو السجن أو التعذيب أو التشويه أو بأي طريقة أخرى.

ما كان يشغلني دوما هو سلوك الناس، لماذا يشمتون في مقتول أو محبوس؟ لماذا ينحازون دائما للسلطة ضد مواطنين مثلهم؟ لماذا يشمتون في قتل أحد أو سجنه أو تعذيبه؟ لماذا لا يضعون احتمالا ولو بنسبة ضئيلة أن يكون هؤلاء المتهمين مظلومين يستحقون التعاطف لا الشماتة؟ ولماذا ينامون بعمق كل ليلة رغم معرفتهم بسجن الآلاف وقتل المئات واعتراف رئيس الدولة نفسه بأن فيهم مظلومين؟

الدكتور محمد كامل حسين أجاب على كل هذه الأسئلة بجملة واحدة في روايته البديعة "قرية ظالمة" حين قال: "إن أكبر الجرائم ترتكب فى سهولة ويسر إذا وزعت توزيعا يجعل نصيب كل فرد أصغر من أن يضطرب له ضميره". 

الضمائر هي التي تقود التغيير، إحساس الفرد بالمسؤولية عن كل مظلوم يقضي شهورا تلو الأخرى في السجن، وكل مريض تلقيه المستشفيات الحكومية في القمامة، وكل طفل يبيت في الشارع لأنه لا يجد مأوى، وكل شاب أنهى دراسته الجامعية فتبوأ مقعده على المقهى، هو الذي يخلق رأيا عاما يدفع السلطة للعدل أو الرحيل. 

لا يشعر "الفرد" في مصر بمسؤولية تذكر عن الفساد والظلم والدماء، يرى أن هناك رئيسا ورئيس حكومة ووزراء ومسؤولين و90 مليون شخص آخر، ثم إنه يتعامل مع المحبوسين والقتلى بمنطق: "إن كانوا مدانين فقد أخذوا جزاءهم، وإن كانوا أبرياء فلست أنا من ظلمهم". 

الناس في مصر لا يبحثون عن سلطة رشيدة تقود بلادهم إلى الأفضل وتؤسس لحكم رشيد، بل عن شماعة يعلقون عليها ضمائرهم ويناموا في سلام، عن سلطة قوية يتركون لها مسؤولية اتخاذ القرار وتحديد الصالح والطالح، ويكتفون بالتهليل والمبايعة والمباركة معتقدين أنهم أبرأوا ذمتهم من كل ذنب.

ورغم أن المؤرخ الأمريكي جيمس هنري برستد يُرجع الفضل إلى المصريين في اكتشاف الأخلاق والضمير في عصر بناء الأهرامات، والذي اعتبره انتقالا تاريخيا كان يحدث لأول مرة فوق الكرة الأرضية وربما الكون كله، إلا أنه قال في فقرة أخرى مهمة في كتابه "فجر الضمير": "إن حب الإنسان للقوة أقدم بكثير جدا من العصر الأخلاقي، ولذلك كانت القوة هي المنتصرة انتصارا خطرا على الضمير والخلق المولودين حديثا". 

نعم اكتشف المصريون الضمير والأخلاق لأول مرة على هذه الأرض، لكن الضمير والأخلاق يتراجعان لصالح مخلوق أكبر سنا اسمه القوة، يحب الناس القوة والأقوياء، وإن كانوا على باطل، ويكرهون الضعفاء وإن كان معهم الحق، يفضلون السير خلف الأقوياء في مواكبهم، على مناصرة الضعفاء لاستعادة حقهم.

"ما إن يتجمع عدد ما من الكائنات الحية، سواء أكان الأمر يتعلق بقطيع من الحيوانات أو بجمهور من البشر، حتى يضعوا أنفسهم بشكل غريزي تحت سلطة زعيم ما، أي محرك للجماهير أو قائد.. الشيء الذي يهيمن على روح الجماهير ليس الحاجة إلى الحرية، وإنما الحاجة إلى العبودية، ذلك أن ظمأها للطاعة يجعلها تخضع غرائزيا لمن يعلن بأنه زعيمها". 

هذه الفقرة التي أوردها المؤرخ الفرنسي غوستاف لو بون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" تفسر كثيرا مما أصبحنا نحياه في مصر منذ تم خلع مبارك في 11 شباط/ فبراير 2011، وقتها تملك الرعب السواد الأعظم من المصريين من فكرة غياب القائد، وساهم الانقسام الذي حدث في الفترة التي تلت الثورة، وعدم وجود شخص متحكم يمكن توجيه المطالب إليه في حنين شريحة كبيرة من الجمهور إلى مرحلة ما قبل الثورة، فهي وفقا لاعتقادهم على ما فيها من فساد أفضل كثيرا من حالة عدم الأمان التي يشعرون بها.

لذلك أمسك الناس بتلابيب رئيسهم الجديد، فهو من وجهة نظرهم يعيد إليهم القائد الذي يفضلون التواكل عليه ليختار لهم ويحميهم ويتحمل المسؤولية عنهم ويحارب الأشرار الذي يحددهم هو نيابة عنهم، وحتى إذا تأكدوا من ظلمه وتجاوزه فهذا بالنسبة إليهم أفضل من العودة مجددا لمرحلة اللاقائد.

الموضوع باختصار أننا أمام جمهور مفتون بقائده، يحب القوة وينحاز إليها ولو على حساب الحق، لا يؤمن بوجود الظلم، وإن آمن بوجوده فهو ليس منزعجا منه، وإن انزعج منه فهو يدرك أنه غير مسؤولا عنه.

هذا وضع سيء للغاية ساهم الجميع في إرساء قواعده، يراهن البعض على أنه قد يتغير بكارثة قومية كبرى أو بسقوط الزعيم الجديد، لكن حتى إذا افترضنا جدلا بأن أحد الخيارين قد يحدث قريبا فالأقرب أن يبحث الجمهور عن زعيم جديد، لا أن يقتنع بخيار الديمقراطية. 
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع