كتب بيتر أوبورن: خلال الشهور الأخيرة من فترة رئاستها البديعة للوزراء -تلك الفترة التي امتدت لما يقرب من 25 عاما- تلقت مارغريت تاتشر من جهاز المخابرات البريطانية طلبا غير عادي. كان صدام حسين قد غزا الكويت، وخلال الأزمة التي تمخضت عن ذلك، أراد جواسيس
بريطانيا خرق القواعد الصارمة التي تلتزم بها الحكومة البريطانية في وايتهول، واستخدام المعلومات التي يتم الحصول عليها من المخبرين من خلال التعذيب.
ردت السيدة تاتشر بإصدار تعليمات أذهلت وأربكت نقادها الشديدين عليها داخل اليسار، حيث أعلنت أن بريطانيا لن تقوم تحت أي ظرف من الظروف بممارسة التعذيب، أو التسامح مع من يمارسه، أو تتواطأ مع أي كان على ممارسته.
بعد اثني عشر عاما، وصل إلى الحكم في بريطانيا رئيس وزراء يحمل مجموعة مريبة من القيم. لقد بات واضحا الآن أن خللا مريعا وقع حينما أصبح طوني بلير الساعد الأيمن لدى جورج دبليو بوش في ما عرف بحربه على الإرهاب.
من الأهمية بمكان التأكيد على أن ضباط المخابرات البريطانية لم يحصل أن مارسوا التعذيب بأنفسهم (وذلك على النقيض تماما من نظرائهم في وكالة المخابرات الأمريكية السي آي إيه).
ومع ذلك، لا يوجد شك أن الضباط البريطانيين كانوا يعلمون بما كان يجري، ويبدو أن بريطانيا كانت متورطة بشكل كثيف في عمليات ما يسمى "التسليم الاستثنائي" – والتي يتم من خلالها اختطاف المشتبه بتورطهم في الإرهاب وينقلون إلى زنازين سرية تحت الأرض في دول صديقة حيث يجري انتزاع المعلومات منهم تحت التعذيب.
ما زالت القصة الكاملة لتورط بريطانيا في هذه الفترة الحالكة منذ أن فقد حزب العمال الجديد بوصلته الأخلاقية غير معروفة بالكامل ولم تسرد تفاصيلها بعد، وذلك بالرغم من أننا نطلع من حين لآخر على لمحات مرعبة.
يقول شاكر عامر، الذي أطلق سراحه أخيرا من معتقل غوانتانامو بيه بعد أربعة عشر عاما من الاحتجاز بلا تهمة ولا محاكمة، إن مسؤولا بريطانيا كان حاضرا عندما كان الأمريكان يعذبونه. هناك العديد من الحالات الأخرى المزعجة، إلا أن الحكومة عملت بكل ما في وسعها خلال الأعوام العشرة الماضية للإبقاء عليها طي السر والكتمان، واستخدم الوزراء في سبيل ذلك عددا من الأساليب، بما في ذلك الخداع الذي لم يتورعوا عن اللجوء إليه بشكل مباشر.
خذ على سبيل المثال وزير الخارجية السابق جاك سترو الذي قال أثناء إدلائه بشهادة أمام إحدى لجان البرلمان في كانون الأول/ ديسمبر من عام 2005: "ما لم نبدأ جميعا بالاعتقاد بصحة نظرية المؤامرة وأن المسؤولين يكذبون، وأنني أنا نفسي أكذب، وأنه ما وراء ذلك يوجد نوع من الدولة السرية التي تتواطأ مع بعض القوى الظلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضا، دعوني أقول: "أن نعتقد بأن وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس تكذب هي الأخرى. ببساطة، لا صحة على الإطلاق للمزاعم بأن المملكة المتحدة متورطة بأي شكل من الأشكال في عمليات 'التسليم الاستثنائي'. نقطة على السطر".
ثبت منذ ذلك الحين أن مزاعم السيد سترو أمام البرلمان كانت واهية وما لبثت أن انكشفت.
وقد لجأت الحكومة إلى التستر وإخفاء الأدلة. ولا أدل على ذلك من أن لجنة الاستخبارات والأمن (آي إس سي)، وهي الكيان البرلماني الذي من المفروض أن يراقب ويحاسب أجهزة المخابرات، برأت هذه الأجهزة من كل مزاعم التواطؤ والتورط في عمليات "التسليم الاستثنائي" – وهو القرار الذي يبدو اليوم كما لو كان ناجما عن حالة من اللامبالاة بل ومن التواطؤ أيضا.
(بالمناسبة، لقد سمعت أخبارا تفيد بأن بول ميرفي، الذي كان رئيسا للجنة الاستخبارات والأمن في البرلمان البريطاني حينما أصدرت اللجنة تقريرها المضحك، مرشح لاستلام مهام رئيس اللجنة البرلمانية التي ستكلف بالتدقيق في مشروع قانون "صلاحيات التحقيق" –أو ميثاق المتلصصين– الذي أعدته وزيرة الداخلية تيريزا ماي. من السهل رؤية لماذا قد ترغب الأجهزة الاستخباراتية في أن يحتل هذا المنصب رجل مذعن ومطواع مثل ميرفي. ولكن، أخذا بعين الاعتبار تاريخ هذا الرجل، فإن مصداقيته في المنصب الذي يرشح له لا تتجاوز الصفر).
لسوء حظ السلطات، أنها لا تتوقف الأدلة الماحقة عن البروز إلى السطح، ومن الأمثلة القبيحة على ذلك قصة المعارض الليبي السابق عبد الحكيم بلحاج.
يدعي عبد الحكيم بلحاج أن جهاز المخابرات السري البريطاني هو الذي رتب عملية "التسليم الاستثنائي" التي تم من خلالها خطفه هو وزوجته الحامل، ونقلهما من تايلاند إلى
ليبيا، حيث مورس بحقه التعذيب بأوامر شخصية من دكتاتور ليبيا معمر
القذافي. ولسوف تبدأ المحكمة العليا الأسبوع المقبل النظر في القضية التي رفعها ضد السلطات البريطانية.
يبدو أن ثمة دليلا قويا على أن أمرا مرعبا قد حدث. فبعد سقوط معمر القذافي في خريف عام 2011، اكتشف المحققون في العاصمة الليبية طرابلس مراسلات بين السير مارك ألان، الذي كان حينها رئيس قسم مكافحة الإرهاب في جهاز المخابرات البريطاني إم آي سيكس ورئيس جهاز المخابرات التابع للقذافي موسى كوسا. تشير المراسلات، والتي لم يبادر السير مارك إلى نفي صحتها أو الطعن في صدقيتها، إلى أن بريطانيا شاركت مشاركة فعالة في عملية نقل السيد بلحاج من بانكوك وتسليمه إلى السلطات الليبية في طرابلس.
ينسب السير مارك في أحد الخطابات إلى نفسه الفضل في المساعدة في ترتيب عملية احتجاز ونقل السيد بلحاج وزوجته قائلا: "كان ذلك أقل ما يمكن أن نقدمه لك ولليبيا".
وهنأ السير مارك حكومة القذافي على "وصول الشحنة الجوية بسلام". وما إن وصل السيد بلحاج إلى ليبيا حتى تلقى الاستقبال الحار الذي يرحب من خلاله القذافي في العادة بمعارضيه السياسيين، فاحتجز في معتقل أبو سليم سيء الصيت لمدة ستة أعوام. وقد تصادف أن أجريت مقابلة مع السيد بلحاج في طرابلس بعد وفاة القذافي بوقت قصير، ولن أنسى أبدا كيف رأيت آثار المعاناة الرهيبة التي تعرض لها خلال ست سنوات من السجن مرسومة على وجهه. لقد كانت محفورة في جبينه وعلي وجنتيه بشكل لا تخطئه العين.
المدهش أن السيد بلحاج أخبرني أنه لا توجد لديه مشكلة مع البريطانيين، بل لقد قال لي إنه ممتن لديفيد كاميرون لدوره في تخليص ليبيا من القذافي.
ولكنه أصر مع ذلك على أن كل ما يسعى إليه هو الحصول على اعتذار من الحكومة البريطانية. يبدو من ظاهر الأمر أن لديه قضية مدعومة بالأدلة القوية. ما من شك في أن ما جرى للسيد بلحاج كان انتهاكا صارخا للقانون البريطاني.
وبالفعل، ينص قانون الإجراءات الجنائية لعام 1988 بوضوح شديد على أن التعذيب جريمة يعاقب مرتكبها بالسجن وأن أقصى عقوبة يمكن الحكم بها هي السجن مدى الحياة.
ليس غريبا إذن ما تردد من أن الحكومة عرضت على السيد بلحاج تعويضا ماليا بالملايين مقابل سحب القضية من القضاء، ولكنه أصر على المضي قدما في القضية، مؤكدا على أنه ليس بحاجة إلى المال، وأن كل ما يسعى إليه ببساطة هو الاعتذار.
لم يتوان محامو الحكومة عن وضع كافة أنواع العراقيل في طريق السيد بلحاج متحججين بأن فتح ملف قضيته في المحكمة أمام الرأي العام سوف يلحق ضررا جسيما بالأمن البريطاني. يستحيل على المرء التنبؤ بما سيحدث الأسبوع المقبل داخل المحكمة، ولكن من المؤكد أن خلاصة واحدة بعينها ستكون حتمية.
يتوجب على رئيس الوزراء الإيعاز بإجراء تحقيق يرأسه أحد القضاة للبحث في كافة الادعاءات التي تتهم الدولة البريطانية بالتورط فعلا في ممارسة التعذيب. ببساطة، لسنا نستحق فقط أن نعرف طبيعة الإجراءات والأعمال غير القانونية التي قامت بها أجهزة المخابرات البريطانية "إم آي سيكس" و "إم آي فايف".
بل نحتاج أيضا لأن نعرف ما إذا كانت تلك الأعمال قد نفذت بعلم الوزراء وبتخويل منهم. من المستبعد جدا أن تكون أجهزة الاستخبارات السرية قد قامت بتنفيذ سياسة سرية تشتمل على التعاون والتواطؤ في ممارسة التعذيب دون إيعاز صريح من قبل الوزراء. (كان جاك سترو هو وزير الخارجية في الوقت الذي جرى فيه خطف السيد بلحاج).
لعل من المفيد الإشارة إلى أن الولايات المتحدة مذنبة بارتكاب أعمال تعذيب أخطر بكثير من أي شيء وجهت فيه أصابع الاتهام إلى بريطانيا. ومع ذلك فقد كشف مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة النقاب عن الأعمال المشينة التي ارتكبتها وكالة المخابرات الأمريكية الـ"سي آي إيه" وارتكبتها غيرها من الأجهزة خلال ما يعرف بالحرب على الإرهاب. ونحن هنا في بريطانيا نحتاج إلى إجراء مشابه.
(عن صحيفة "ذي ديلي ميل" البريطانية- ترجمة وتحرير: عربي21)