كتب سرمد الطائي: استرجع اليوم تفكيرا قديما حول لغتنا العربية وهي عندي شهية لذيذة فاخرة. أن سحرها هذا لا ينفي أنها لغة جرى استخدامها في أشياء يتعلق معظمها بإشعال النزاعات، لا فضها وتسويتها والدعوة إلى السلام واللاعنف. ولذلك فإن القاموس المتاح في رؤوسنا لا يمنح المرء، حين يندلع أي نزاع، سوى ثلاث أو أربع قواعد للتفاوض والتعامل، وحين يمد المرء يده في جيبه ليستعين بقاعدة إضافية تضمن المطاولة والمناورة والإقناع، سيجد جيوبه خالية من الصياغات اللغوية المناسبة مثل خزينة تاجر مفلس. وحينها لن يكون معقولا أن يجلس بصمت على طاولة التفاوض، فيستمر بالكلام ولكن بحدة هذه المرة، ولا يبقى أمامه سوى الاستفادة من خزين التشاتم والتلاعن والتحريض ونهاية ذلك معروفة، سيوف تعانق سيوفا، ومدافع تصرخ في وجه مدافع.
ليس العيب في اللغة طبعا، بل في أننا لم نتلق التدريب الكافي على تطوير فن الكلام بما يتناسب مع ممكنات التسوية الحياتية، بالضبط كما أننا لم نمتلك التدريب الكافي على صناعة محرك أو تشييد ناطحة سحاب.
وبسبب نقص خبرتنا في فهم ضرورة التفاوض، فإننا نفقد الصبر ونسخر من المفاوضين الأجانب، ونقول بسخرية إن الأجانب لا يملون من الكلام! بينما نحن نمل بسرعة، ونضيق ذرعا، ونحب "التمسك بالمبادئ وعدم المساومة" فنهرع إلى القتال، ونغطس في الدم، ونتذوق خسارات لا تنقطع.
التاريخ إذا تذكرناه كدرس لا كملحمة وبكائية، سيعلمنا الشك في القدرة الحالية لقاموس التفاهم. وهو شك حميد يمكن أن يشجعنا على البدء بالتدرب على أداء أكثر جلادة وصبرا. وهو صبر لا يقل في أهميته ومعناه عن صبر المحاربين تحت وابل القصف. وبدون الصبر لن نتمكن من أن نملأ جيوبنا بقواعد تفاوض وإقناع ومخارج لمختلف المآزق، لتقليل فرص أن نغرق في الدم كحمقى عاجزين.
الأمر الآخر الذي يخطر على بالي اليوم هو ضرورة أن نعتاد على النسبية، لتخفيف تطرفنا، ولنكون مؤهلين أكثر في التعامل مع الخصم. أن كل طرف محلي يقوم بشيطنة خصمه، شيطنة تامة مطلقة وتغيب عنه رؤية النواحي المؤثرة في الخصم والتي يمكن أن تمنحنا فهما أعمق لتجنب مخاطر كثيرة. أن التغافل عن هذه "النسبية"، سيورطنا في التمادي، وسيجعل الجزء الشرير من خصمنا، يخرب الجزء الطيب فينا. وحينها سنتحول إلى قوم بدائيين نرقص فوق جثث بعضنا بسعادة غامرة، تحت مبرر أننا على "حق مطلق" وأن المقابل هو "شر مطلق". هذه القناعة هي فتوى إبادة، لا للخصم فقط، بل إبادة الخير في دواخلنا. وحين نتحول إلى وحوش فسنأكل كل شيء، القريب قبل البعيد!
هذا النوع من المراجعة، للغة ولمبدأ النسبية في تقييم الخصوم والأعداء، سيساعدنا في أن نتحرك ببطء لنخرج من غابة الغرائز الجامحة، ونحاول أن نلتحق بعالم تستقر قواعده وقوانينه، ويدير صراعاته بالأساليب الأقل كلفة. وهو منفذ للخروج من
التخلف السياسي المنتج للموت العام.
(عن صحيفة المدى العراقية- 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)