قال الكاتب روبرت فيسك في صحيفة "إندبندنت" إن العرب، الذين أعلنوا بثوراتهم عدم رضاهم عن
الحدود التي رسمها لهم الاستعمار الغربي، تعاملوا بالاستخفاف ذاته مع الحدود، عندما زحفت جيوش اللاجئين المعدمين مجتازة الحدود الأوروبية.
ويبدأ الكاتب مقالته بالحديث عن فيديو نشره
تنظيم الدولة في أوائل عام 2014، وكان من أوائل أشرطته قبل أن تصبح بمستوى أفلام هوليوود. الفيديو كان لجرافة تهدم حاجزا على الحدود السورية العراقية، ثم تتحرك الكاميرا لتصور لافتة مكتوبة بخط اليد على الأرض، كتب عليها "نهاية
سايكس بيكو".
ويقول فيسك: "شاهدت هذا الفيديو في بيروت، مثلي مثل مئات آلاف العرب في الشرق الأوسط، الذين يعدون (سايكس بيكو) سرطانا. فالنتائج التي ترتبت على الخطة السرية التي رسمها الدبلوماسيان البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورجس بيكو، التي اقتسمت فيها بريطانيا وفرنسا البلاد العربية، حيث كان المفروض أن تأخذ فرنسا سوريا وجبل لبنان وشمال العراق، وتعطي بريطانيا فلسطين والأردن وبقية العراق.. هذه الاتفاقية يعرفها العرب مسلمين ومسيحيين وحتى اليهود. فقامت الدولتان بتمزيق المحافظات العثمانية، وأقامتا حدودا مصطنعة".
ويضيف الكاتب: "حدث أن زرت في الليلة ذاتها، التي شاهدت فيها الفيديو الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، فزمجر في وجهي قائلا: (نهاية سايكس بيكو!)، فصهلت قائلا: (كلام فارغ). وكنت مخطئا، وكان جنبلاط محقا، فهو لاحظ كيف استطاع تنظيم الدولة تحقيق ما سعى له العرب رمزيا على مدى مئة عام: تفكيك الحدود المزورة، التي قسم فيها المنتصرون في الحرب العالمية الأولى العرب. وكان بناؤنا الاستعماري الذي أنشأناه، وليس فقط الحدود التي فرضناها عليهم، بل الإدارات والديمقراطيات الكاذبة التي فرضناها احتيالا عليهم، ونظام الانتداب والوصاية الذي سمح لنا بحكمهم، قد سمم حياتهم. وقد أعلن كولن باول وصاية مشابهة على نفط العراق قبل الغزو الأنجلو- أمريكي غير الشرعي عام 2003".
ويعلق فيسك: "فرضنا ملوكا على العرب، وهندسنا استفتاء نتيجته 96% لصالح الملك الهاشمي فيصل في العراق عام 1922، ثم أمددناهم بالجنرالات والديكتاتوريين. وحظي الناس في كل من ليبيا وسوريا والعراق ومصر بحكومات كاذبة وشرطة وحشية وصحف كاذبة وانتخابات مزيفة. ولم تعن (الديمقراطية) بالنسبة للعرب حرية التعبير ولا حرية انتخابات من يحكمهم، ولكن الكلمة بالنسبة لهم هي إشارة إلى الشعوب الديمقراطية الغربية التي استمرت في دعم الديكتاتوريين القساة الذين قمعوهم".
ويتابع الكاتب: "لذلك فإن الثورات التي اجتاحت الشرق الأوسط عام 2011 لم تناد بالديمقراطية، ولكن من تونس إلى القاهرة إلى دمشق إلى اليمن نادت الشعارات المرفوعة بالعدالة والكرامة، وهما سلعتان لم نسع لأن يتمتع العرب بهما. لم نسع لتحقيق العدالة للفلسطينيين أو الأكراد، ولا حتى للأرمن، الذين دمروا عام 1915، ولا لغيرهم من العرب الذين يعانون. ولكني أعتقد أنه كان علينا البحث بعمق لنعرف سبب التغيرات الضخمة عام 2011".
ويذكر فيسك أنه "عندما كتبت عن الثورات في وقتها عزوتها إلى انتشار التعليم والسفر، وبينما أقر بقوة وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت، فإن شيئا أعمق كان له الأثر الأهم. فقد أفاق العرب من نوم عميق، ورفضوا البقاء (أطفالا) يحكمهم وصي كالأب، مثل عبد الناصر والسادات ومبارك والأسد والقذافي. أفاقوا ليجدوا أن حكوماتهم هي المؤلفة من أطفال أحدهم مبارك وكان عمره 83 عاما".
ويستدرك الكاتب قائلا: "لكنني الآن أظن أنني كنت مخطئا في تحليلي، وأظن أن النقابات أدت دورا مهما، خاصة أنها كانت قوية في مصر وتونس، حيث كان سفك الدماء أقل بكثير من بلدان أخرى منعت حكوماتها هذه النقابات مثل ليبيا، أو استولت عليها مثل سوريا واليمن، ولكن حتى هذا لا يشرح أحداث 2011".
ويقول فيسك: "الآن أعتقد أن ما تجلى في ذلك العام هو قناعة عميقة لدى العرب بأن المؤسسات التي بنيناها نحن الغربيين لهم قبل مئة عام عديمة القيمة، وأن البلدان التي منحناها لشعوب مصطنعة وحدود مصطنعة لا معنى لها، فهم يرفضون البنية التي فرضناها عليهم كلها. ولا يغير هذا انتكاس مصر وعودتها إلى وصاية العسكر والإذعان الغربي المتوقع لذلك، بعد فترة قصيرة من حكومة الإخوان المسلمين المنتخبة. ومع أن الثوارات بقيت في حدودها ابتداء، فإن الحدود بدأت بخسارة معناها".
ويلفت التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن "حركة حماس في غزة والإخوان المسلمين أصبحوا وحدة، وبدأت الحدود بين غزة وسيناء بالذوبان. وانهيار ليبيا أذاب حدود القذافي، وتسربت أسلحته وبيعت للثوار في سوريا. وتونس، التي يفترض أنها حبيبة الغرب؛ لالتزامها بـ (الديمقراطية)، يخشى عليها من الانهيار؛ بسبب تهريب الأسلحة للمجموعات الإسلامية عبر حدودها مع ليبيا والجزائر. وإدراك تنظيم الدولة لذوبان الحدود يعني أن بقاءه العابر للحدود مضمون من الفلوجة في العراق لحدود حلب السورية، ومن نيجيريا إلى النيجر إلى تشاد".
ويجد الكاتب أنه "لذلك بإمكان تنظيم الدولة إضعاف اقتصاد كل بلد ينتقل إليه، من شرم الشيخ، حيث إسقاط الطائرة الروسية، إلى تونس حيث وقع اعتداء متحف باردو ومنتجعات سوسة. وكان هناك وقت هاجم فيه إسلاميون معبدا في جزيرة جربة في تونس، وقتلوا 19 شخصا عام 2002، ولكن السياحة استمرت. وكانت شرطة ابن علي وقواته الأمنية قادرة على الحفاظ على الأمن الداخلي في تونس، وأبقي الجيش ضعيفا؛ خوفا من قيامه بانقلاب، ولذلك هو اليوم جيش شبه عاجز ولا يستطيع حماية حدود تونس".
ويرى فيسك أن "إدراك تنظيم الدولة لذلك كان سابقا لإدراكنا. فقد عرف حقيقة صعوبة الدفاع عن الحدود في العصر الحديث، وتزامن ذلك مع خيبة أمل العرب في بلدانهم التي فشلت. وأغرق ملايين اللاجئين الأفغان والسوريين لبنان والأردن وتركيا ثم إلى شمال
أوروبا".
ويقول الكاتب: "بدأت أفهم هذا في تموز/ يوليو، عندما ذهبت إلى اليونان لتغطية أزمتها الاقتصادية، وسافرت إلى الحدود اليونانية المقدونية، ورأيت كيف ينتقل
اللاجئون من دولة أوروبية إلى جارتها، وهكذا لأجل الوصول إلى أوروبا الغربية. والمهم بالنسبة للغرب أن هؤلاء اللاجئين لا يعترفون بحدودنا أيضا، ويخترقونها باللامبالاة ذاتها، التي اخترقوا فيها حدود سوريا مع لبنان وتركيا. فاكتشفنا اليوم، نحن الذين صنعنا الحدود في الشرق الأوسط، أن هؤلاء الناس لا يعترفون بتلك الحدود ولا بحدود بلادنا، ويسعون إلى الوصول إلى ألمانيا أو السويد، ولو مشيا على الأقدام، ولا يستطيع عناصر الشرطة المسلحون بالغاز المسيل للدموع ثنيهم عن ذلك".
ويضيف فيسك: "سبب صدمتنا، بل وسخطنا، هو أن حدودنا الغالية لا تحترم، وتخترقها جيوش في أغلبها مسلمون فقراء، على النقيض من خرقنا ونحن سعداء للحدود العربية".
ويورد الكاتب أنه "عدا عن المغامرة المأساوية في أفغانستان، والغزو غير القانوني عام 2003 للعراق، فقد قامت طائراتنا بضرب ليبيا والعراق وسوريا، بالتعاون مع طائرات بعض الدول التي تدعي الديمقراطية، لدرجة أن هذه الحالة أصبحت روتينية، وتقريبا عادية، ولا تستحق حتى عنوانا على الصفحة الأولى".
ويذكر فيسك أن "الفرنسيين كانوا يضربون الرقة قبل أن يقول لنا الرئيس هولاند أنه في حالة حرب، واليوم يضرب الطيران الفرنسي الرقة، بعد أن أعلن الرئيس أنه في حالة حرب. فقد اعتدنا على ضرب الأراضي العربية إلى درجة أنه لم نعلن أننا في حالة حرب، إلا عندما بدأ المسلمون بمهاجمة عواصمنا".
ويبين الكاتب أنه "لا توجد في العواصم العربية حالة طوارئ حمراء وبرتقالية، فهي تعيش في حالة طوارئ حمراء طيلة الوقت، ترزح تحت تلك الحالة التي فرضها الديكتاتوريون المدعومون من الغرب، وبالطبع منذ نكبة العراق نفضل استخدام مليشيات محلية ليموتوا لأجلنا، فالأكراد هم مقاتلونا البريون ضد تنظيم الدولة، وكذلك المليشيات الشيعية والإيرانية، بل والجيش السوري وحزب الله، وإن كنا لا نحب أن نعترف بذلك".
ويوضح فيسك أن"تنظيم الدولة قام بنسخ هذه السياسة البشعة. فبالرغم من أن كثيرا من الجرائم، التي ارتكبها متطرفون تحولوا إلى التطرف في سوريا، فإنه في معظم الحالات كان مرتكبو الجرائم هم مسلمون بريطانيون أو فرنسيون أو بلجيكيون يشنون حربا بالوكالة. وأهمية هذا هو أن تنظيم الدولة يسعى لإشعال حرب أهلية داخل أوروبا، خاصة بين المسلمين -ومعظمهم من أصول جزائرية- وبين الشرطة الفرنسية".
ويقول الكاتب: "دعمنا لإسرائيل، التي لم تعين حدودها، يتماشى منطقيا مع رفضنا للاعتراف بأي حدود عربية، إلا إذا ناسبنا، فنحن الأوروبيون من يرسم الحدود، ونحن نحدد أين تبدأ الحضارات وأين تنتهي، ورئيس وزراء هنغاريا هو من يحدد بالضبط أن يضع قواته لحماية (الحضارة المسيحية). نحن الغربيون من يقرر حماية السيادة أو الاعتداء عليها في الشرق الأوسط".
ويخلص فيسك إلى تأكيد أنه "عندما يقرر العرب أن يبحثوا لأنفسهم عن مستقبل في بلادنا وليس بلادهم، تصاب هذه السياسة بخلل. وغريب كيف ننسى أن من حطم الحدود في العصر الحديث، وسعى للقضاء على اليهود كان أوروبيا، وكان ربما استمر لارتكاب محرقة ضد العرب، ولا تزال لدينا الجرأة لتسمية القتلة في باريس (فاشيين إسلاميين)، ويكتب برنارد ليفي عن تنظيم الدولة النازي، ويدعو إلى مساعدة الحلفاء الأكراد؛ لأن (عدم وجود جنود على أرضهم يعني دماء أكثر على أرضنا). وهذا ما قاله لنا بوش وبلير قبل أن يذهبا إلى مقبرة العراق، نذهب هناك كي لا يهاجمونا هنا، ولكن يبدو أن الأيام التي كان يمكننا فيها القيام بمغامرات أجنبية ونتوقع البقاء آمنين في بلادنا قد ذهبت بلا عودة".