كتاب عربي 21

السقطات الإعلامية – هنا لندن نموذجا

1300x600
عوض محمد الحسن، سفير سوداني متقاعد، وكاتب لا يشق له غبار، وتعقيبا على مقالاتي هنا حول بؤس حصيلة الكثيرين من "العرب" من اللغة العربية، وافاني بتعقيب عليها، مؤداه أن "الإعلام العربي يجني على العربية – إذاعة هنا لندن نموذجا".

يقول الأستاذ عوض: تتحدث معظم الديانات السماوية عن علامات معينة تنبئ باقتراب يوم القيامة، وأضيف أنا اجتهاداً بأن أبرز علامات "نهاية العالم" في زمننا هذا،  انحدار مستوى إذاعة البي بي سي العربية، والأغلاط الفادحة والفاضحة التي يرتكبها مذيعوها ومذيعاتها في اللغة العربية (وهو ما لا يغتفر ويستوجب الفصل الفوري من الخدمة، والقطع من خلاف!).

ويواصل صاحبنا: "ظلّت إذاعة لندن العربية لعقود طويلة الإذاعة المفضّلة لدى ملايين الناطقين بلغة الضاد، يستقبلون يومهم بها بأخبار السادسة صباحاً ويودّعونه بأخبار العاشرة مساءً.. يهتزون لسماع الأصوات العميقة النّدية الفصيحة، ويصيخون السمع في ما يشبه التبتل، يستقون من "هنا لندن" أخبار الدنيا والسياسة والاقتصاد والحروب".

كانت إذاعة لندن العربية في ما مضى مدرسةً تزخر بمواهب وفدت من بلاد العرب، التي كانت ترزح آنذاك (ولا تزال) تحت تسلط المستعمرين والملكيات والجمهوريات الزائفة، بحثا عن الحرّية ولقمة العيش، وكانوا يُعِدّون ويُقدّمون برامج شيّقة ومتنوعة: قول على قول، ومن كلّ بستان زهرة، والسياسة بين السائل والمجيب. ثم صارت "هنا لندن" اليوم تبثُّ برامجها على الـ "أف أم"، وتُنافس "تانجو" و"مانجو" وبانجو"، في "الخِفُّة" والأخبار التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، وفي المكالمات الهاتفيّة التي يحتكرها عدد محدود من المستمعين، ممن يعانون من "جنون الميكروفون" و"أكلان في اللسان" مزمن، يتحدثون في شجاعة أدبية نادرة في تخصيب اليورانيوم وتغيّر المناخ والخلايا الجذعية والأزمة المالية العالمية.

يُتحفوننا طوال اليوم بآراء فجة ومعلومات ضحلة، بلغة ركيكة تصكّ الآذان: نستمع إلى عبد القيوم خبر الشوم يهاتُف لندن من أم شرانق، ينثر اطلاعه الواسع عبر الأثير: قال الشاعر، "تموت الأسود في الغابات جوعاً/ ولحم الضان يأكلوه الكلاب"!!

وما يثير دهشتنا وحيرتنا وغضبنا، الأغلاط العجيبة والمتكررة التي يرتكبها مذيعو ومذيعات البي بي سي في حقّ العربية والإنجليزية، ولم أصدق أذني حين سمعت مذيعة الأخبار تقول (عدة مرات) "هَندراوُس"، وتقصد "هندُورَاس"، ووزيرة الخارجية الأمريكية (السابقة هِيلاري كلينتون)، تصبح عندهم "هَالاري" بفتح الهاء عِوضاً عن الكسر!

"أما في قواعد اللغة العربية فالأمر جلل. سمعت مراسلا لبي بي سي الذي يغطي فعاليات مهرجان سينمائي: "97 فيلماً يتنافسون"! يتنافسون؟؟ هذا ما كان يسميه أساتذتنا الأجلّاء "لغة أكلوني البراغيث"!!

"هذا غيضٌ من فيضٍ، فاض به كيلنا، ولكنه يصيح بنا: اقتربت الساعة، فحسّنوا أعمالكم، وليكن دعاؤكم:  "نسأل الله السلامة وحسن الخاتمة".

وأتوقف بدوري عند إذاعة وتلفزيون هيئة بي بي سي الناطقَين بالعربية، لأنني عملت بالهيئة حينا من الدهر، ولأنني اكتسبت الكثير من المعارف والمعلومات في صباي وشبابي من متابعة إذاعة هنا لندن، عندما كان عماليق تلك الإذاعة، يعطون كل حرف في كل كلمة حقه، فتهتز أجهزة الراديو الضخمة (التي كانت في حجم التلفزيونات المعاصرة)، فتتخلخل أرجل الطاولات التي كانت تجلس عليها.

أعني أنني أتخذ إذاعة بي بي سي العربية نموذجا للسقوط اللغوي والمعرفي العمودي للإعلاميين، فقد صارت تلك الإذاعة تنتمي إلى فئة "حضارات سادت ثم بادت"، وبعبارة أخرى فإذا كانت هنا لندن قد ضحت باسمها ومكانتها، حتى كاد الناس أن ينسوا الأمجاد التي صنعها "الرواد"، فعلام العجب عندما تشنف الآذان أصوات ببغاوات عقولها في آذانها وبالتالي فمستوى إدراكها الذهني وقدرتها على النطق محدودة.

وهكذا وصلنا مرحلة صار فيها إعلاميو المشرق والغرب العاملون في قطاع التلفزيون، يحسبون أن اللهجة اللبنانية "كوول"، فما أن برعت التلفزيونات اللبنانية في مجال البرامج الترفيهية القائمة على اللغو، حتى استقدمت الفضائيات التجارية مقدمي تلك البرامج فصار قاموس التلفزيون يضم عبارات اكتسبت معاني لا علاقة لها بمفرداتها، فـ"أستحلفك بالله" صارت "منشان الله"، و"الشكر لله" صارت "ميرسي كتير لـ الله"!!