يعتقد الخبير الأمني مايكل نايتس أن مدينة
بغداد باتت في دائرة الاستهداف من قبل تنظيم الدولة، ونجاح التنظيم في استهداف بغداد يعني أن الفصائل الشيعية المسلحة ستنحي باللائمة على الحكومة وجيشها الوطني، ويجعلها تطالب بمزيد من الصلاحيات لاستلام الأمن في المدينة، ما يعني تشققا وانقساما في المجتمع
العراقي.
ويتساءل الخبير في معهد واشنطن، المتخصص في السياسة والأمن في العراق، ما الذي يهم لو حررنا
الفلوجة بينما نرى بغداد وهي تتحول في تلك الأثناء إلى فوضى طائفية وحكم مليشيات؟
ويضيف نايتس، هذا هو السؤال الذي يحيّر صناع القرار في العراق وفي التحالف الدولي في ظل السلسلة الأخيرة من التفجيرات في عاصمة البلاد وجنوبها الشيعي.
يقول نايتس إن الأرقام هي التي تتكلم؛ ففي 18 أيار/ مايو تبنى تنظيم الدولة مقتل 522 عراقي في منطقة بغداد خلال الشهر المنصرم، وجميعهم تقريبا من المدنيين. وذلك بواسطة 15 حزاما ناسفا وست سيارات مفخخة. كما أن التفجيرات الهائلة التي طالت المناطق التي تعج بالمدنيين الشيعة في بغداد في 11 و17 أيار/ مايو حصدت أرواح حوالي 200 من هذه الوفيات، فيما جرح مئات آخرون.
يتابع نايتس، الذي عمل في كل محافظة عراقية وفي معظم الـ100 منطقة في البلاد، من بينها فترات كان خلالها ملحقا مع قوات الأمن العراقية، إنه راقب أنماط الهجمات اليومية في بغداد لأكثر من عقد من الزمن كمحلل مخاطر يعمل لصالح شركات أمنية في العراق، وهناك خلاصتان واضحتان بداية تشرحان موجة العنف الحالية.
أولا، قد تتفاقم هذه الأزمة وتزداد سوءا. ففي عام 2012، كانت موجات التفجيرات الكبيرة في بغداد تتتالى كل شهرين تقريبا، إلا أنه مع نهاية عام 2013، أصبحت تتوالى كل ثمانية أيام تقريبا. وخلال تلك الفترة، ارتفع بسرعة عدد التفجيرات الكبيرة التي نفذها تنظيم «الدولة الإسلامية» في بغداد من 20 عملية شهريا إلى أكثر من 50 في الشهر الواحد. وبحلول صيف 2013، شهدت معظم الأيام 3 تفجيرات كبيرة أو أكثر في بغداد.
ولم تنحل الأزمة أو تتوقف قط، إنما انحسرت فقط؛ لأن تنظيم «الدولة الإسلامية» وجد هدفا أفضل لقواته، ألا وهو احتلال الفلوجة والموصل ومعظم شمال العراق. وها نحن اليوم نواجه المشكلة ذاتها التي واجهنا حينذاك. وفق نايتس.
ويضيف "ولكن عندما ازدادت فعالية القوات العراقية وقوات التحالف، وفرضت نكسات على تنظيم «الدولة الإسلامية» في ساحة المعركة، بدأت الجماعة المسلحة بالفعل بالعودة إلى تكتيكاتها الإرهابية. وقد سبق أن شهدت الفلوجة ضربات جوية مكثفة شنتها القوات العراقية وقوات التحالف، بالإضافة إلى انتقال القوات العراقية إلى بعض المناطق التي تقع على مشارف المدينة؛ ومن المرجح أن تكون بداية عملية الهجوم لاسترجاع الفلوجة، مؤشرا على خسارة تنظيم «الدولة الإسلامية» الوشيكة لإقليم آخر".
ثانيا، لم تعد بغداد اليوم كما كانت عام 2013. فقد اعتاد سكان المدينة على درجة أعلى من الأمن وسيرغبون في المحافظة عليه. وبدأ سكان العاصمة بالاحتجاج على الفساد في الحكم والنقص في الخدمات، وسيضطرون قريبا إلى التعامل مع النقص السنوي في انقطاع الكهرباء خلال فصل الصيف.
وفي الوقت نفسه، تسعى
المليشيات الشيعية المدعومة من إيران، مثل «عصائب أهل الحق»، إلى تولي زمام السيطرة على أمن مدينة بغداد وانتزاعه من قوات الأمن الحكومية، التي فشلت ليس في الحد من الهجمات المتزايدة فحسب، بل أيضا في منع الغوغاء من أنصار مقتدى الصدر من اقتحام البرلمان الشهر الماضي والاعتداء على مرافقه.
وبغض النظر عن أن جلب المزيد من القوات إلى العاصمة لن يوقف التفجيرات، [فلا بد من التساؤل] لماذا تستمر الهجمات في بغداد، في الوقت الذي تتواجد فيها 48 في المئة من القوات القتالية في العراق للمحافظة على أمنها؟
لماذا يصعب تأمين بغداد؟
تمتد العاصمة العراقية على مساحة تبلغ حوالي 150 ميلا مربعا (400 كم مربع)، أي ما يوازي تقريبا مساحة أثينا أو أنقرة. ويبلغ طول محيطها أكثر من 70 ميلا (113 كم)، وتقع عند ملتقى شبكة من 8 طرق سريعة للشاحنات، ما يسمح للسيارات التي قد تحتوي على المتفجرات بالدخول إلى بغداد من كل ناحية. إن وجود عدد لا يُعد ولا يحصى من الطرق الصغيرة يؤمن منفذا إلى شطري المدينة شرق نهر دجلة وغربه، والذي بنيت بغداد حوله.
وعلى الرغم من توافر أحياء سكنية كبيرة يقطنها السنة داخل المدينة، إلا أن هذه ليست مصدر الهجمات المفخخة التي استهدفت المناطق الشيعية. ففي أعقاب التطهير الطائفي الشامل بين عامي 2005 و 2008، يحرص السكان السنة في بغداد على إبعاد العنف عنهم. وتتميز مناطقهم بتحصينها بعدد كبير من الحيطان الإسمنتية، وتؤمن القوات الحكومية
حماية مداخل هذه الأحياء عن كثب.
لكن منبع المشكلة هو المناطق الريفية المجاورة التي تطلق عليها قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة "أحزمة بغداد". فعندما "زادت" دول التحالف بقيادة الولايات المتحدة من قواتها العسكرية في العراق ("الطفرة") عام 2007، كانت "أحزمة بغداد" هدف حملات طويلة ودؤوبة لمكافحة التمرد، نجحت خلالها قوات الأمن في توطيد علاقاتها مع المواطنين، والتغلغل ضمن صفوف السكان، وكسبت ثقتهم وتعاونهم ضد "الإرهابيين".
ولا تعدّ المداخل أو الطرق الرئيسية في بغداد آمنة. فوسط المدينة زاخر بالنشاط التجاري والمحلات، ولذلك لا سبيل إلى وقف حركة مرور العربات والمركبات على الطرق السريعة المؤدية من بغداد وإليها. ففي كل يوم يعبر أكثر من مليون شخص من فوق 11 جسرا تربط الأحياء المكتظة في شرقي بغداد -والتي يسكن فيها مليونا شخص في مدينة الصدر- متجهين إلى غرب العاصمة، حيث مرافق الحكومة ومكاتبها ومراكز العمل.
ولا تؤمن نقاط التفتيش العديدة -المتوافرة على مداخل المدينة وتقاطعاتها- الكثير من الحماية. فالقوات المرهقة، التي أنهكها الطقس والحرارة والغبار والملل، عادة ما تسمح للسيارات بالمرور دون أقل تفتيش يذكر. ولا تزال العديد من نقاط التفتيش تستخدم أجهزة كشف المتفجرات "أي دي إي 651" (ADE 651) المزيفة، وذلك بعد سنوات من إثبات عدم فعاليتها تماما. فإذا أراد أصحاب المتفجرات تأمين عبور عبواتهم دون مشكلة، فقد تعلّموا دفع الرشاوى للعبور عبر نقاط التفتيش.
تأمين بغداد دون الخضوع لحكم المليشيات
أدت الهجمات العنيفة التي قام بها تنظيم الدولة مؤخرا إلى حث البعض إلى التفكير في بعض الحلول المتطرفة نسبيا. ويتمثل أحد الخيارات في أن تسمح بغداد للمليشيات الشيعية بتولّي عمليات الأمن. وقد تؤدي المضايقات التي تسببها المليشيات إلى جلاء سكان بعض المناطق السنية المشتبه في تورّطها في إطلاق قاذفات القنابل. وكما حدث تماما في عام 2014 لمنطقة جرف الصخر، قد تصبح بغداد منعزلة تماما عن الضواحي المحيطة بها.
وحينذاك، سيتعين على المواطنين من خارج بغداد -والمقصود بالفعل المواطنين السنة- تسجيل أسمائهم مع من يكفلهم، قبل أن تُمنح لهم تصاريح الدخول إلى المدينة، على غرار ما يتطلبه «إقليم كردستان العراق» من الزوار العرب. وستحافظ المليشيات، التي تعدّ أقل عرضة لقبول الرشوة، على مناطقها الخاصة ومداخل المدينة عند نقاط التفتيش المسلحة. وبالتالي، ستضطلع قوات الأمن الحكومية بدور أقل أهمية في المحافظة على أمن العاصمة.
ورغم أن ذلك يبدو حلا ماكرا، إلا أنه يعد وسيلة سريعة لفقدان السيطرة على بغداد وخضوعها لحكم المليشيات. وتحظى القوات المسلحة غير الحكومية في العراق بسجل حافل من عمليات الإدانة والمشاركة في العنف الطائفي والاختطاف مقابل الحصول على فدية. ويرفض العراقيون قبول حكم المليشيات، لكنهم يحتاجون إلى الحصول على بديل مناسب.
ويمكن أن يوفر الحل عالي التقنية سبيلا لتحقيق مستقبل أفضل لبغداد.
ويفصل التقرير حول الحلول التقنية المتمثلة في خطط تعتمد على التكنولوجيا في رصد السيارات المفخخة ومعالجتها قبيل تفجيرها، لكنها حلول مكلفة وباهظة.
ويخلص نايتس بعد سرد مفصل للحلول التقنية إلى أن الدفاع الأفضل عن بغداد يتمثل في المبادرة بالهجوم. وكانت التفجيرات في العاصمة أقل تواترا حينما كانت "قيادة العمليات الخاصة المشتركة" تتولى تدمير شبكات تنظيم «القاعدة» في الأحزمة الريفية لبغداد، حيث كان يتم تحضير السيارات المفخخة، ثم شن غارات لاحقة ضد مجموعة من الأهداف حتى قبل أن تدرك الجماعة الجهادية بسقوط أعضاء آخرين من شبكتها.
ويمكن أن تؤدي العمليات الخاصة والاستخبارات والتفكير الذكي والتكنولوجيا، إلى الحد من المخاطر التي تهدد بغداد، وفرض الرقابة على المليشيات، وإبقاء عملية الموصل على المسار الصحيح. وينبغي أن يكون ذلك إحدى أولويات العراق وشركائها في التحالف. فما الهدف الفعلي من تحرير الموصل إذا كان المقابل هو فقدان بغداد؟