يقول بيت من الشعر العربي ذهب مذهب الأمثال: "إذا أقْبَلَتْ باضَ الحمامُ على الوَتَدِ / وإذا أَدْبرَتْ بالَ الحمارُ على الأسدِ".
والمعنى هنا واضح في الحالتين، في حالة الازدهار والنهوض والتقدّم والانتصار، كما في حالة التراجع والانحطاط والهزائم والانكسار.
ففي الحالة الأولى، وهي تنطبق على الأفراد والجماعات والدول، حين تُقبِل الأمور في مصلحة نجاحهم وتوفيقهم. وقد تصل إلى حدّ أن يبيض الحمام على الوتد. وهو من الخير الذي يُشبه المحال.
وكذلك الحالة الثانية، حين تبدأ المصائب تتلاحق الواحدة بعد أخرى، حين تُدْبِر الأمور في غير ما يشتهي الأفراد والجماعات والدول. وقد تصل إلى حد أن يبولّ الحمار على الليث الضرغام وهو من السوء الذي يُشبهُ المحال.
هاتان الحالتان مرّتا على الوضع الصهيوني. فكانت مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين واحتلال فرنسا وبريطانيا أغلب البلدان العربية، ومن بعدها مرحلة ما بعد قيام الكيان الصهيوني وصولا إلى نهاية القرن العشرين. وهي المراحل التي تمثلت بالإقبال عليه حتى كاد الحمام يبيض على الوتد.
أما الحالة الثانية، التي هو الآن فيها ولا سيما منذ هزيمته في حرب تموز/ يوليو 2006 في لبنان ثم هزائمه العسكرية في حروب 2008/ 2009 و2012 و2014 في قطاع
غزة، مع هزيمة الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان والانهيار الاقتصادي العالمي لعام 2008، وفشل مشروع المحافظين الجدد للشرق الأوسط الجديد. إنها مرحلة الإدبار والتي يكاد يبول فيها
نتنياهو على نفسه.
من يتابع بدقة أخبار الكيان الصهيوني الداخلية سواء أكان على مستوى المعنويات العامة الهابطة في جيشه أم مجتمعه.
وهنا يكفي مشهدان: مشهد الشاب الفلسطيني وهو يواجه جنديا في جنوب فلسطين فيما الجندي يهرب منه ومن سكينه حاملاً سلاحه الناري. أما المشهد الثاني فحال الطوارئ، أو ما يشبه حالة منع التجوّل في
تل أبيب طوال سبعة أيام بعد عملية نشأت ملحم المتواضعة بقتل اثنين وهروبه وعدم العثور عليه إلاّ بعد أسبوع. وكان ذلك كافياً ليلتزم سكان تل أبيب بيوتهم إلى أن يُكتشف نشأت ملحم ويُقتَل خارج تل أبيب.
ثم أضف ما يدور من صراعات داخلية حتى على مستوى الإئتلاف الوزاري الهش مما يترك سياسة الحكومة متخبطة مرتبكة في مواجهة الانتفاضة، أو معالجة المشكلات التي تواجهها كل حكومة. هذا إلى جانب تدافع أخبار الفساد، وكان آخرها، وليست الأخيرة، الفضيحة التي لحقت بوزير الداخلية.
ولعل تقرير مراقب الدولة حول حرب غزة 2014 وتسريبه قبل أسبوع من الأمثلة ذات الدلالة على أن الكيان الصهيوني، لا سيما حكومة نتنياهو وجيشه قد دخلوا حالة الإدبار. فضلا عن تدهور علاقاتهم الخارجية بحماتهم وحلفائهم الدوليين، وعن سلبية الرأي العام الغربي تجاه سياسات نتنياهو.
لقد جاء في التقرير المذكور ما يفيد بأن نتنياهو "تخاذل في الحرب مع حماس، وتراجع عن محاربتها". الأمر الذي وجّه صفعة قويّة على وجه نتنياهو ولا سيما أمام حلفائه الذين يزايدون عليه، فيما يحاول أن يظهر بأنه أكثر منهم صلابة وتطرفا.
وأشار التقرير إلى أن إخفاقات خطيرة وقعت في حرب "الجرف الصامد" عام 2014 في مجال اتخاذ القرارات، أو طرق تنفيذها، كما في مجال المعلومات الإستخبارية، لا سيما في اكتشاف الأنفاق التي وصل بعضها مئات الأمتار داخل الأراضي التي تحت سيطرة الجيش الصهيوني.
وهذا بالطبع مجرد جزء مما ورد في التقرير أي الجزء الطافي في البحر من جبل الجليد. فهنالك على سبيل المثال الهزيمة العسكرية التي مُنِيَ بها الهجوم في أسبوعيْه الأوليْن. ولماذا تحوّل إلى القصف، وأدام الحرب 51 يوما. وقد حُسِمَت نتائجها منذ الأسبوعيْن الأوليْن.
المسؤولية التي يوجهها التقرير عن الأخطاء والنواقص تقع أول ما تقع على عاتق نتنياهو، باعتباره رئيس الوزراء والمسؤول المباشر عن قرار الحرب وإنهائها، إلى جانب مسؤوليته الإدارية عن الجيش. الأمر الذي يزيد من عرج نتنياهو الذي أصبح يوصف بالبطة العرجاء.
وهنالك إلى جانب نتنياهو يتجّه التقرير إلى تحميل مسؤولية رئيسية إلى موشيه يعلون وزير الدفاع، وإلى بيني غاتس وكان رئيس أركان الجيش في حرب 2014 على قطاع غزة.
وهؤلاء أصبحوا الآن تحت مرمى الانتقادات الشديدة سواء تلك التي جاءت من الأحزاب والتكتلات المنافسة والصحافة أم من أهالي القتلى من الجنود. وقد راح الأخيرون يطالبون بنشر التقرير بالكامل، وتشكيل لجنة تحقيق مثل لجنة فينوغراد التي حققت في حرب 2006 على لبنان.
وكان من نتيجتها الإطاحة بعدد كبير من الجنرالات وفي مقدّمهم دان حالوتس رئيس أركان الجيش في حينه، ووزير الدفاع عمير بيرتس.
وكانت بداية السقوط السياسي لرئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت.
البعض راح يسمّي تقرير المراقب بأنه الزلزال الذي يضرب في الكيان الصهيوني الآن. وقد أصبح نتنياهو وحكومته على شفا شفير أو الهروب لإعادة الانتخابات.
صحيح أن نتنياهو سيحاول الإفلات من نتائج هذا التقرير. وصحيح أن ثمة ظروفا أشدّ خطورة تحيط بالكيان الصهيوني في هذه المرحلة. مما يغلّب الميل لتهدئة الأزمة والتناقضات. ولكن ما يجب أن يركّز عليه هو التأكد في تقدير الموقف أن حكومة نتنياهو وجيشه والوسط السياسي والوضع الداخلي في أزمة عميقة، كما أن الوضع الدولي للكيان الصهيوني في أزمة عميقة كذلك.
هذا ما يجب أن تدركه قيادات الفصائل الفلسطينية ليكون حافزا على انخراطها وتوّحدها في الانتفاضة للذهاب بها إلى العصيان المدني الشعبي السلمي الذي سيفرض إلى جانب ما تمارسه الانتفاضة من أشكال مقاومة على نتنياهو وجيشه الانسحاب من القدس والضفة الغربية وتفكيك المستوطنات، بلا قيد أو شرط، وإطلاق كل الأسرى وفك الحصار عن قطاع غزة.
موازين القوى وأزمة الكيان الصهيوني تسمحان بتحقيق هذه الأهداف بإذن الله.