كتاب عربي 21

الوجه الآخر للصراع في بنغازي

1300x600
من ضمن ما كتبته عن الدعوة لتبني النظام الفدرالي في العام 2012 أن تكريس هذا الاتجاه وتبني هذا الطرح سيكون له أثر سلبي في ظل البيئة السياسية والاجتماعية في "برقة"، وسيوجد تنافسا وربما صراعات على الثروة وعلى النفوذ بين المدن والقبائل، وفيما نراه اليوم من إشكاليات تغذيها النزعة القبلية إنما يعزز المخاوف التي كنا قد أشرنا إليها في مناسبات عدة.

ما تحدث به أحد وجهاء قبيلة العواقير في إحدى اجتماعات القبلية خلال الأيام الماضية هو تأكيد لما سبق ذكره، فقد ذكر بشكل صريح أن قبيلة "المغاربة" استأثرت بالنفط، في إشارة إلى أن إبراهيم الجظران ومن معه من القوة التي تسيطر على حقول وموانئ النفط في الواحات والمنطقة القريبة مغاربة، وأن قبيلة "البراعصة" هيمنت على الحكومة، وسيطر "العبيدات" على البرلمان، ولما يبقى لقبيلته إلا الموت، يريد بذلك ارتفاع عدد قتلى أبناء العواقير في الحرب الدائرة في بنغازي. ومع عدم التسليم بشكل قطعي بما قال، إلا إن ما قاله هو تعبير عما يجيش في قلوب بعض أبناء القبيلة، ويرسم المسار الذي ينبغي أن تسير فيه.

نقل بعض الثقات على صفحاتهم في الـ"فيسبوك" كلاما لشخصية أخرى مبرزة من قبيلة العواقير تحدث، بحسب النقول، في مناسبة مماثلة عن الغبن الذي وقع على القبيلة عبر التاريخ وأنها دائما كانت مطية للآخر لتنفيذ مآربه أو تحقيق طموحاته، فيما يكون نصيب القبيلة التضحية ثم نكران الجميل. فبحسب النقولات ذكر الشخصية العقورية المبرزة أن الغبن وقع للقبيلة زمن الترك، وزمن حكم الملك إدريس، وفي فترة حكم القذافي، وهي تقع في الفخ نفسه بعد ثورة 17 فبراير، وربما يريد بكلامه متابعة القبيلة للفريق خليفة حفتر، وهو اتجاه يتفق فيه مع قيادات ميدانية وشخصيات فاعلة من القبيلة التي تخوض صراعا بات جليا ضد خليفة حفتر، والمواقف والتصريحات الأخيرة للمهدي البرغثي ولفرج اقعيم، إنما تتناغم مع هذا العرض وتنطلق منه.

نفهم من التطورات الأخيرة والتصريحات النارية التي تضمنت تهما خطيرة أن الخلاف لا علاقة له بالتجاوزات مهما بلغت خطورتها، فالاغتيالات التي تحدث عنها اقعيم واتهم قيادة الجيش بالتورط فيها لم تقع الأيام الماضية أو منذ شهر أو شهرين، والكثير منهم على علم بها، ولم تكن نقطة خلاف في السابق. الخلاف في الحقيقة حول النفوذ، فشباب العواقير الذين يقودون قوة عسكرية ضاربة، ومن خلفهم بعض مشايخ وأعيان القبيلة، يريدون نفوذا معترفا به في بنغازي، ومساحة للفعل والتوجيه والسيطرة لا ينافسهم فيها أحد، فيما يعتبر حفتر هذا الاتجاه خطرا عليه وتقويضا لنفوذه، وإضعافا لمشروعه القائم بالأساس على بناء مؤسسة عسكرية، ونظاما منضبطا يأتمر بالقيادة ولا يشذ عنها. فحفتر لا يعترف بالأقاليم، ولا بالنفوذ القبلي السياسي والعسكري، بينما جناح من العواقير يريد براحا مستقلا ونفوذا عسكريا لا يخضع للضوابط التي يريدها حفتر.

مبايعة بعض مشايخ وأعيان القبيلة لحفتر مؤخرا يعكس الخلاف تحت قبة مجلس العواقير، فبعض المتحفظين على التصعيد ضد حفتر تحدثوا عن مخاوف من أن ينتقل الصراع داخل بنغازي بين أبناء القبيلة، أو أن يجد العواقير أنفسهم في مواجهة مع القبائل البرقاوية التي لا شائبة في ولائها لحفتر، والأخير لا يبدي ترددا - حتى الآن - في عزمه على إخضاع من يعتبرهم متمردين على الجيش، في مقابل موقف متصلب من الجناح العسكري للقبيلة الذي يتحكم في جزء من مفاتيح اللعبة ويريد أن يكافئ نفوذ حفتر من خلال نفوذ وزارة الدفاع التابعة لحكومة الوفاق باستلام المهدي البرغثي لها.

هذا الإفراز كان متوقعا، وقد تحدثنا عنه منذ انطلاق عملية الكرامة، وهو مؤشر على إمكان وقوع صراع من نوع آخر، في حال لم يتم احتواؤه، يمكن أن يعظم من أزمة بنغازي ويطيل من محنتها الراهنة، غير أن مقاربة احتوائه لا يمكن أن تكون من خلال إعادة ترتيب الولاءات، أو الطبطبة على الأكتاف، فالخلاف كما أشرت ليس إجرائيا أو متعلقا بوقوع مخالفات وينتهي بمجرد معالجة تلك المخالفات، فهو صراع نفوذ ويرتبط بالتركيبة الاجتماعية للمدينة، وبالتالي فإن المعالجة لحقيقة له إنما تكون من خلال توافق جميع مكونات المدينة وفق روح تصالحية ورؤية إصلاحية حداثية حقيقية، أما المقاربات القبلية المتعصبة فلن تزيد الوضع إلا تعقيدا، وستنتقل دوائر الصراع فيها من الأوسع إلى الأضيق والنتيجة هي مزيد من الصراع والفوضى.