لم يتردد الرئيس التركي طيب رجب
أردوغان، بعد فشل المحاولة
الانقلابية التي قام بها عسكريون أتراك، في الخامس عشر من الشهر الجاري، في توجيه أصابع الاتهام إلى الداعية فتح الله
غولن المقيم في الولايات المتحدة الأمريكية بوقوفه خلف المحاولة الانقلابية الفاشلة.
وطالب أردوغان في كلمة ألقاها أمام أنصاره المحتشدين في إسطنبول، الإدارة الأمريكية بتسليم غولن، وقال: "أتوجه إلى أمريكا، أتوجه إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما، سلمونا هذا الشخص"، من دون ذكره بالاسم.
وجدد رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، طلبه للولايات المتحدة بتسليم فتح الله غولن، الذي اتهمه أردوغان بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية، قائلا: "الدولة التي تحمي فتح الله غولن لن تكون دولة صديقة، ولكنها دولة معادية".
أثار اتهام أردوغان وحكومته لفتح الله غولن جملة من التساؤلات القلقة حول طبيعة النسق الديني الحاكم والموجه لفكر وسلوكيات غولن، والذي أباح له الضلوع في تدبير المحاولة الانقلابية وفقا لاتهام أنقرة له.
وحامت تلك التساؤلات حول الانتماء الديني لفتح الله غولن، فهل الرجل صوفي التوجه؟ وما علاقته بالنورسيين؟ وما هي أسرار سلطة الرجل على أتباعه والتزامهم التام بتوجيهاته؟ وما مدى دقة القول بتغلغل جماعته في مؤسسات الدولة؟ وهل ثمة مؤشرات وأدلة قوية تثبت وقوفه وراء الانقلاب العسكري الأخير؟
صوفي التوجه والتربية
وفقا للكاتب والمحلل السياسي التركي إسماعيل ياشا، فإن فتح الله غولن "صوفي التوجه، وتربيته لأتباعه تربية صوفية بامتياز".
وأشار ياشا في حديثه لـ"
عربي21" إلى أن فتح الله غولن "استغل انتماءه المزعوم للمدرسة النورسية (أسسها بديع الزمان سعيد النورسي)، نظرا لانتشار طلاب هذه المدرسة في المجتمع التركي بكثرة"، لافتا إلى أن تلاميذ سعيد النورسي نفوا ارتباط غولن بالنورسي، وتتلمذه على يديه.
وجوابا عن سؤال "كيف يمكن تفسير سلطته الطاغية على أتباعه والتزامهم الصارم بتوجيهاته؟"، قال ياشا: "طلابه يرونه كالمهدي المخلص، ولذلك يطيعونه طاعة عمياء، وينفذون أوامره بلا مناقشة ولا مراجعة".
وفي السياق ذاته، رأى الصحفي الأردني محمد عادل عقل، أن فتح الله غولن "اتبع مسلكين مهمين لترويج فكرته الدينية بين أتباعه: تمثل الأول في عدم ضرورة الالتزام الحرفي بالنصوص الدينية كي تصبح مؤمنا، وممكن أن يتحقق ذلك حتى لو لم يلتزم بالصلاة أو باللباس الشرعي للمرأة".
وأضاف عقل الذي يعمل ناشرا وكبير مراسلين في وكالة الأناضول بإسطنبول لـ"
عربي21": "ولا مانع من ارتكاب بعض المخالفات مع توفر النية الصادقة"، مشيرا إلى أن "هذا الأمر ما كان ليتحقق لولا البعد الآخر وهو البعد الاقتصادي".
وأوضح عقل أن انطلاقة غولن في البداية كانت مع مجموعة من الاقتصاديين الأثرياء الذين لهم امتدادات خارجية، لافتا إلى أن "غولن لم يتمكن من أتباعه إلا بعدما وفرت له الظروف الاقتصادية الأجواء الملائمة لترويج أفكاره".
وتابع عقل بأن ذلك كان "علاوة على أن تحالفه مع حزب العدالة والتنمية الحاكم زاد من نجاح الفكر الاقتصادي للرجل، وحقق هو وجماعته من خلاله قفزة نوعية، وكونوا جماعة اقتصادية نجحت بفضل الدعم الخارجي لهم أيضا".
وطبقا لعقل فإن غولن "أسس شبكة اقتصادية كانت قادرة على تمويل بروبوغاندا جاذبة للأتباع، فالمال كان السبب الرئيس في تزايد المريدين الذين وُفرّت لهم حرية التنقل والتمدد خارجيا".
وعن طبيعة تدين أتباع غولن ونوعية التزامهم الديني، قال عقل: "من احتك بجماعة غولن يعرف أن التزامهم الديني ضعيف، ومشوه، وربما بعيد كل البعد عن روح الإسلام الحقيقي وجوهره".
غولن وفتنة الصراع على السلطة
إذا كان فتح الله غولن قد انخرط في الميادين التعليمية والدعوية والتربوية والاقتصادية، وتمكن من تكوين جماعة عريضة القاعدة، واسعة الانتشار في
تركيا وخارجها، فما الذي ساقه إلى معترك السياسة؟ وكيف تمكنت جماعته من التغلغل في مؤسسات الدولة التركية، لا سيما الأمنية والعسكرية منها؟
استذكر الكاتب والباحث الفلسطيني، المقيم في إسطنبول، سعيد الحاج، أن فتح الله غولن منذ ثمانينيات القرن الماضي كان يوجه أتباعه للأخذ بالتقية السياسية، والسرية التامة، وإخفاء أفكارهم وهويتهم الدينية، وعدم الظهور بشكل علني، حتى لو اضطروا إلى الصلاة بالإشارة أو الإيماء، لأن العبادة الكبرى عندهم كانت تتمثل بعدم انكشاف أمرهم، وما دون ذلك يهون.
وأضاف سعيد لـ"
عربي21": "لقد استطاعوا بأخذهم بالتقية السياسية، وإخفاء أفكارهم وهويتهم، التغلغل في مؤسسات الدولة، وتمكنوا في وقت لاحق من السيطرة على مفاصل مهمة في مؤسسات الدولة، وتحديدا المخابرات العسكرية، التي يرجع إليها في الحكم على الأشخاص والموافقة على تعيينهم في مؤسسات الدولة المختلفة".
وأشار سعيد إلى أن أعضاء الجماعة استطاعوا كذلك التغلغل في مؤسسة القضاء، وظهر ذلك جليا بعد عام 2013، الذي رفعت في آخره جملة من قضايا الفساد ضد مسؤولين أتراك، وكانت الحكومة تقبض على بعضهم في اليوم الأول، ثم يتم إطلاق سراحهم في اليوم التالي، لأن كثيرا من القضاة والمدعين العامين من الجماعة متغلغلون بشكل كبير في الجهاز القضائي.
وجوابا عن سؤال "هل ثمة مؤشرات قوية تثبت وقوف فتح الله غولن وراء المحاولة الانقلابية؟"، لفت سعيد إلى أن الرواية الوحيدة المتداولة لغاية اللحظة هي الرواية الحكومية، وليس بين أيدينا أي مصدر آخر يقدم لنا رواية أخرى، مؤكدا أن رواية الحكومة منذ بداية الأحداث حصرت مسؤولية الانقلاب بجماعة فتح الله غولن (الكيان الموازي حصرا).
ولاحظ سعيد أن عدد التوقيفات الكبير يشير، ولو مجرد إشارة، إلى أن الكيان الموازي ليس هو الجهة الوحيدة التي تقف وراء الانقلاب، ربما يكون هو من خطط لذلك أو أراده ويسره، لأن هناك قطاعات وشخصيات في الجيش شاركت في هذا الانقلاب، وقد يكون للقيادة السياسية أهدافها باستثمار اللحظة الراهنة لمكافحة تنظيم الكيان الموازي، والقضاء عليه نهائيا.
وأردف سعيد بالاستناد إلى ما رشح من التحقيقات، بأن هناك عدة أشخاص اعترفوا بتبعيتهم للتنظيم، وهناك أشخاص اعترفوا بوقوفهم خلف الانقلاب، كما أن رئيس هيئة الأركان الذي احتجز ليلة الانقلاب، قال إن الذين احتجزوه عرضوا عليه الاتصال بفتح الله غولن ليتحدث معه، وكذلك فإن المستشار العسكري لرئيس هيئة الأركان اعترف بانتمائه للكيان الموازي.
من جهته، أكد الكاتب التركي إسماعيل ياشا، أن "وقوف جماعة غولن وراء محاولة الانقلاب الفاشلة واضح وضوح الشمس، لدرجة أنه ليس بحاجة إلى مزيد من الأدلة والمؤشرات، ولكن إن كان لا بد من دليل فإن اعترافات الضباط المتورطين، وكذلك اعترافات كتاب موالين للجماعة كافية".
وبحسب أحد المقربين من جماعة غولن، فضل عدم ذكر اسمه، حفظا لود قديم يربطه بهم، فإن الجماعة كانت تقول "نحن لا نعمل في السياسة"، لكنهم غرقوا فيها إلى آذانهم، وقد أفسدوا عملهم بالدخول في لعبة الصراعات السياسية، وكان بإمكانهم المحافظة على مكتسباتهم التعليمية والدعوية والتربوية والاقتصادية، لو أنهم نأوا بأنفسهم عن معترك السياسة، وصراعاتها المهلكة.