كثيرا ما نحفظ آيات وأحاديث، وحكم ومواعظ، تأسر قلوبنا وعقولنا، وقت قراءتها، وتأخذ بمجامع الإنسان وكيانه، لا يدري متى يستخدمها قلبه وعقله في وقت ما، ثم تدرك في وقت معين، في محنة مثلا، تجد الآية أمامك أو الحديث أو الحكمة، وكأنك تقرأها لأول مرة، وكأنك أنت المخاطب بها وحدك، وقد ساقها القدر أمام خاطرك في هذه اللحظة، وهذا من فضل الله على الإنسان. ومن الحكم التي حفظناها ورددناها كثيرا قول ابن عطاء الله: (من ظن انفكاك لطفه عن قدره، فذلك لقصور في نظره). أي: إذا ظن إنسان أن قدر الله يأتي للإنسان دون أن يسوق الله عز وجل لطفا مع القدر ليخفف به عن الإنسان هذا المصاب، فهذا التصور يأتي بناء على قصور في نظر الإنسان وإيمانه بربه، يقول تعالى: (إن ربي لطيف لما يشاء).
ومن خلال تجربة شخصية لي أسوقها لأنها تعبير عملي عشته عن لطف الله في أقداره دوما، من خلال محنة عشتها، كانت في تعرض ابنتي لحادث مؤلم، ثم وفاتها بعد الحادث بخمس سنوات، عندما أستيعد شريط الحدث، وملابساته، أرى لطف الله لم يفارقنا في هذا القدر، الذي يراه من خارجه صعبا، وتحمله أصعب، لكن لطف الله كان دوما معينا فيه فلله الحمد والمنة، وهكذا كل حدث جلل يعيشه الإنسان، لا يخلو من لطف يضعه الله عز وجل يهون هذا الأمر.
ملخص الحادث: أني خرجت لجلب دواء لابنتي وكانت وراء السيارة ولم أدر بها، فرجعت على رأسها بالسيارة، وكانت طبيعتي أني لا أتحمل رؤية الدماء، ومنظر الدم يصيبني بفقدان رؤية، ودوار شديد أفقد فيه اتزاني، فتظلم الدنيا في عيني تماما، ولأني كنت وحدي مع ابنتي، فقد لطف الله بي وتماسكت حتى طلبت الإسعاف وجاءت لتحملها، ثم بعدها بدأت الأعراض التي تأتيني عند رؤية الدماء، وهذا لطف من الله. وكان هذا المشهد تمهيدا لي لتحملي رؤية دماء من سقطوا بعد ذلك في حادث المنصة، ثم فض رابعة والنهضة ومصطفى محمود.
وكنت أخشى وقع الخبر على زوجتي، فلما دخلنا العناية المركزة، فوجئت زوجتي بامرأة سودانية تجلس أمام طفلة ترقد على سرير في العناية المركزة بجوار سرير ابنتي، فحدثتها المرأة أن لديها أربع بنات، يكبرن إلى سن معين، ثم بعدها يأتي قضاء الله لهن بالموت دون أسباب معروفة، وقد ماتت ثلاث بنات وهذه هي البنت الأخيرة ترقد في فراش الموت، تنتظر الأم قضاء الله فيها، فكانت رسالة تثبيت عمليا لزوجتي، فإذا ابتلاها الله في بنت لها فقد عافى آخرين من أبنائها، ووجدت ثباتا على وجه المرأة ألجم حزنها تماما، فجعلها لا تنطق إلا بكلمة: الحمد لله.
ثم خرجت بعدها تحكي لي ما رأت، ولا أدري ما الذي أوقع في يدي كتابا كان مركونا على رف في المستشفى، ووجدتني أقلب في صفحاته تلقائيا، فأجد حديثا وكأني أقرأه لأول مرة، رغم حفظي له من قبل، وكثرة استشهادي به للناس على المنابر، كان نصه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ماتَ ولد العبد المؤمن؛ قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ قالوا: نعم، قال: قبضتم ثمرة فؤادِه؟ قالوا: نعم، قال: فما قال؟ قالوا: استرجع وحمدك، قال: ابنوا له بيتًا وسمّوه بيتَ الحمد"، لأجدني أنطق بحمده سبحانه وتعالى، ولأول مرة أشعر معنى الحديث، في كل عبارة منه، وكل لفظة، تشرح معناه بجلاء، وتصور واقعا أعيشه لا يصوره غيره، فلفظة: (قبضتم ثمرة فؤاده)، ففعلا كل ابن من أبنائك هو ثمرة فؤادك، وكأنه قطع لجزء من قلبك، ثم المعنى الأكبر هو أن يسوق الله لك هذا اللطف بقدرته، فليس فضلا منك، لعلم ولا لعمل، يقول تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) ويقول ابن عطاء الله: لا تفرحك الطاعة لأنها برزت منك. لأنها في حقيقة الأمر هي بفضل الله الذي وفقك لحمده وطاعته.
ومر ما يقرب من خمس سنوات، وابنتي في غيبوبة كاملة لا إفاقة منها، وكل الأطباء لا يعطون أي بارقة أمل للشفاء، سوى أن نتقرب إلى الله بالدعاء، وهو ما حدث سواء بألسنتنا أم بألسنة الأحبة حولنا، ونظرا لإقامتي في اسطنبول وإقامة أبنائي في الدوحة، جاءت أسرتي لزيارتي في تركيا، وتحتاج ابنتي إلى مرافق لها يرعاها، فجاءت خالتها من مصر لتقيم معها فترة زيارة أبنائي لي، وبعد قدوم أبنائي بأيام قليلة، يأتي قضاء الله بوفاة ابنتي، وفي هذا لطف من الله عظيم، فلا زوجتي، ولا أحد منا كان يستطيع تحمل أن يرى ابنتي في لحظة سكرات الموت، ولكنه قضاء الله الذي لا ينفك لطفه عنه دوما للعبد، لو فكر فيه. والمحنة بطولها لا تخلو من ألطاف لا يحصيها مقال مهما طال، لكني ألمحت إلى أهم ما فيها، أو ما اطلع عليه المحيطون بي.
ولست أريد شخصنة المعنى في تجربتي، لكن المعنى الذي أود التركيز عليه: أن لكل إنسان تجربة لو تأملها لن يجد لطف الله يفارق قدره فيها معه، لو أحسن التأمل، فإذا لم تتقرب إلى الله بنعمه، قربك إليه بمحنه، وفي ذلك يقول ابن عطاء الله: (من لم يُقبل إلى الله بملاطفات الإحسان، سيق إليه بسلاسل الامتحان). لكن الأهم في هذا كله أن يكون في كل حدث لك سير منك إلى الله، سواء باللطف أو بالامتحان. عافانا الله وإياكم من داء الغفلة.