كتاب عربي 21

إعادة كتابة التاريخ والمشي على الألغام

1300x600
أصبح واضحا اليوم أن تحقيق العدالة الانتقالية فيما يخص الصراع الدموي الذي دار في مطلع الاستقلال بين أنصار بورقيبة وأنصار منافسه القوي صالح بن يوسف لن تكون مسألة سهلة؛ إذ رغم مرور حوالي ستين عاما على تلك الأحداث التي انتهت باغتيال بن يوسف وسجن المئات من أنصاره، فلا تزال نفوس الأحياء ممن كانوا ضحية تلك المرحلة مسكونة بقدر عال من الكراهية والرغبة في الانتقام ومحاكمة الخصوم.

وما حاول بعض هؤلاء توجيه اتهامات مباشرة للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة ب" الخيانة " حتى انتفض أنصاره وعشاقه للدفاع عن مكانته وموقعه المنحوت بقوة السنين في الذاكرة الوطنية للشعب التونسي، وطالبوا بالإيقاف الفوري لمسار "هيئة الحقيقة والكرامة"، ومحاكمة رئيستها السيدة سهام بن سدرين واتهامها بالعمل على تحويل الهيئة إلى محاكمة تاريخية لبورقيبة وتراثه الإصلاحي.

لو حاولنا أن نختزل ذلك الصراع الذي اندلع بعد حصول تونس على الاستقلال الداخلي، لجاز القول بأنه معركة اندلعت بين قائدين في حزب واحد حول من سيحكم الحزب والبلاد في المستقبل. فالرجلان كانا متشابهين في كثير من الخصائص والتوجهات، بما في ذلك رغبتهما الشديدة في القيادة والسلطة، إذ كل منهما كان يرى في نفسه الأهلية والقدرة على الانفراد بالقرار والتوجيه. ولهذا، عندما التقى الرجلان لآخر مرة، وقبل أن يلجأ إلى العمل المسلح لحسم الخلاف، توجه بورقيبة إلى غريمه بالقول "ليس بيننا خلاف سوى في مسألة واحدة عليك أن تسلم بها، أنا الرجل الأول وموقعك أن تكون الرجل الثاني".

 وهكذا انقسم الحزب الدستوري، وتحول الأخوة إلى أعداء حتى قتل الشقيق شقيقه، وتم التخطيط للانقلاب على الرئيس بورقيبة الذي أعدم بالمناسبة عددا من قادة المقاومة المسلحة ضد الاستعمار، ولم تستقر الأوضاع نهائيا إلا بعد أن تمت تصفية صالح بن يوسف بألمانيا، ووضع العشرات من رجاله في السجون حيث قضوا سنوات رهيبة تحت الأرض.

بعد الثورة، توفرت لأول مرة الفرصة لكي يقدم أحد من هؤلاء شهادته أمام التونسيين في نقل مباشر عبر التلفزيون. وجاءت شهادته صادمة لأنصار بورقيبة وأحبائه، خاصة عندما اتهمه بكونه قد أطلق سراح قتلة الزعيم النقابي فرحات حشاد، في إيحاء منه بأن لبورقيبة يد في اغتيال هذا الزعيم الوطني الذي جمع بين قيادة الحزب الدستوري من جهة وقيادة الحركة النقابية من جهة أخرى في ذلك الظرف الصعب من تاريخ الحركة الوطنية. فما كان جزاؤه سوى اغتياله على أيدي عصابة " اليد الحمراء " التي أنشأتها المخابرات الفرنسية والتي تمكنت من تصفية العديد من الشخصيات التونسية الفاعلة في المقاومة.

لم يقتصر الأمر على تلك الشهادة الصادمة، وإنما زاد الطين بلة تلك الدعوة التي توجهت بها رئيسة هيئة الحقيقة والكرمة من أجل إعادة كتابة التاريخ. وهي دعوة تعني التخلي عن السردية الرسمية للتاريخ السياسي المعاصر لتونس منذ نشأة الدولة الوطنية. وإذا ما تم ذلك فإن جزءا أساسيا من ذاكرة التونسيين مرشحة للخضوع إلى عملية جراحية ستكون مؤلمة جدا. فأنصار صالح بن يوسف يريدون اليوم القيام باغتيال سياسي لخصمهم التاريخي الحبيب بورقيبة ليجعلوا منه خائنا للوطن، ويسقطون بذلك صورة القائد والزعيم ومؤسس الدولة الوطنية. وهو ما يحاول البورقيبيون التصدي له بكل قوة وإصرار.

حقيقة، هيئة الحقيقة والكرامة ليست مؤهلة لإعادة كتابة التاريخ رغم أهمية الشهادات التي جمعتها لأول مرة منذ الاستقلال. كما أن هذه الشهادات على أهميتها فإنها تبقى روايات أصحابها لما عاشوه وما تعرضوا له من تنكيل، لكن المؤرخين وحدهم هم المؤهلون لفرز تلك الشهادات ومعرفة ما يؤخذ منها وما يطعن فيه.

المؤكد الآن، أن بورقيبة وبن يوسف رفيقا نضال طويل، وهما ليسا فوق النقد وليسا من جنس الملائكة أو من عالم الشياطين. وعلى التونسيين أن يدركوا بأن الهدف من مسار العدالة الانتقالية ليس فتح الجروح القديمة وتغذية الأجواء لاستئناف الحرب الأهلية، وإنما الغرض هو تحقيق المصالحة التاريخية، وتقييم الماضي بشكل موضوعي، والتعهد بعدم تكرار الأخطاء القديمة التي كلفت العباد والبلاد الكثير من الآلام والخسائر. أما إعادة كتابة التاريخ فتلك ورشة ستبقى مفتوحة أمام المؤرخين فقط.