في الساحة العربية هناك كهان يوافوننا في أواخر وطوالع كل عام بتكهناتهم وفي مقدمتهم الألوسي الذي قال في مطلع عام 2003: إن نظام صدام حسين سيعقد سلاما دائما مع الولايات المتحدة، وبعدها بنحو شهرين كانت القوات الأمريكية قد دخلت بغداد وكان ما كان..
إذا مات سيبويه وفي نفسه شيء من حتى فسأموت وأنا لا أعرف كيف استحقت رابعة العدوية لقب "شهيدة الحب الإلهي"، ولا كيف يحرم بلايين المسلمين من شرف الشهادة وهم أحبوا ويحبون الله كما رابعة..
ما يؤكد أن البرهان لا يؤتمن حتى على ستر نفسه من الزلل، أنه، وعسكره يتولون اصطياد المتظاهرين يوم الإثنين 17 كانون الثاني/ يناير الجاري بالذخيرة الحية، ثم عقد اجتماعا لمجلس الأمن والدفاع وخرج ببيان يشيد فيه بـ"الحنكة" التي تتعامل بها الأجهزة الأمنية..
قراءة المشهد الراهن في السودان، حيث البرهان هو الكل في الكل، في غياب مجلس للوزراء أو برلمان أو تنظيم سياسي يدعمه، وفي ظل تظاهرات يومية رافضة لوجود العسكر وتحديدا البرهان وحميدتي في أيٍّ من هياكل الحكم..
من المؤكد أن استقالة حمدوك من منصبه جعلت الموقف في السودان ضبابيا وممعنا في الرمادية، ليس لأنه كان يحمل عصا موسى، وليس لأن حواء السودانية عاقر ولم تنجب من يصلح لرئاسة الحكومة خلفا لحمدوك، ولكن لأن العسكر الذين خلا لهم الجو بانصراف حمدوك عن منصبه ليبيضوا ويصفروا، سيصبحون أكثر ميلا للبطش الأهوج..
إلى جانب الإفلاس الأخلاقي الذي ينضح به سلوك الانقلابيين، فإن فشل البرهان في استقطاب تأييد أفراد يسوقون مشروعه الانقلابي يجعله يستعين بضباط جيش متقاعدين يتم توزيعهم على القنوات التلفزيونية..
يوافق اليوم السبت 25 كانون أول/ ديسمبر ذكرى خروج أكبر موكب في الخرطوم للمطالبة بإسقاط نظام عمر البشير في عام 2018، ومن المقرر أيضا أن يشهد هذا اليوم تسونامي بشريا يطالب بخروج العسكر من جميع هياكل الحكم وقيام نظام مدني خالص..
منذ انقلاب البرهان الأخير في 25 تشرين أول/ أكتوبر المنصرم، والأثير ينوء بتصريحات أولئك الجنرالات الذين يحرصون على الظهور على شاشات التلفزة، وكل واحد منهم يحمل مسمى خبير استراتيجي (أحدهم جعلها اصطراطيجي)..
في سياق كل ما هو حادث اليوم في المشهد السياسي في السودان وما سيحدث حتما في المستقبل القريب سيكون الخاسر الأكبر هو حمدوك الذي ضيعه العسكر بتوريطه في نهجهم الانقلابي، وأضاع نفسه بأن رضي بأن يكون أداة في يد العسكر..
عاد حمدوك إلى منصبه بعد التوقيع مع البرهان على اتفاق إطاري هو في جوهره نفس بيان الانقلاب محفوفا ببعض الرتوش التجميلية، وليس فيه إشارة لدور القوى المدنية في الحكم، لأنه يعطي مجلس السيادة الذي أعاد البرهان تشكيله صلاحيات الحل والعقد، بينما غابت الإشارة لصلاحيات رئيس الوزراء..
منذ أن وضع توقيعه على البيان / الاتفاق/ الإعلان، وحمدوك حريص على الظهور في العديد من شبكات التلفزة لتبرير ما أقدم عليه، وأول مبرر يردده هو "حقن الدماء"، وهو أمر ليس في يده، بل في يد العسكر الذين أثبتت الوقائع أن أيديهم تبادر باللجوء إلى زناد البندقية..
تسيل الدماء في شوارع مدن السودان الكبرى والبرهان بعد مجرد "مشروع ديكتاتور"، وهو يحسب ـ بسبب السذاجة السياسية ـ أن ذلك كفيل بردع الخصوم، بينما المواطن العادي يتساءل: إذا كان الرجل قد قتل 32 شخصا في الأيام الـ 23 الأولى من حكمه فما هو فاعل عندما يحكم لـ 23 أسبوعا أو شهرا ـ لا قدَّر الله؟
اجتماع العي والغي عند الانقلابيين يصبح حديثهم عن كفالة الحريات والديمقراطية ضربا من الديماغوجية، فكيف ينفي البرهان عن نفسه شبهة الانقلاب، وقد صار جهاز الاستخبارات العسكرية يقوم بمهام الشرطة، وصار كل من يعارض الانقلاب يساق للاستجواب أمام النيابة العسكرية؟
يبدو أن البرهان وصل مرحلة "طارت السكرة وجاءت الفكرة"، لأنه يسعى جاهدا من خلال وسطاء إلى إقناع حمدوك بتشكيل حكومة جديدة، ويفوت عليه أن الرهينة لا يبرم الصفقات مع مختطفه، رغم استعصام البرهان المستمر بسلاح البهتان بالزعم أن حمدوك حر طليق..
لا بد عند استعراض سيرة ومسيرة البرهان خلال العامين ونيف الماضيين من استحضار ما قاله في أول حوار صحفي له بعد جلوسه على كرسي ابن عوف رئيسا لمجلس عسكري سعى للانفراد بالحكم، ولو على جماجم من جعلوا ذلك ممكنا: والدي رأى في المنام أنه سيكون لي شأن عظيم في البلاد!!
لم يكن البرهان يحظى بسند شعبي ذي وزن منذ أن جلس على كرسي رئاسة مجلس السيادة، وبانقلاب يوم الاثنين الماضي يكون قد شرع في السقوط العمودي المتسارع، فقوى الثورة التي أسقطت نظام عمر البشير الأكثر عتوّاً وقوة من أي نظام قد يحاول البرهان إنشاءه