في إطار تحليل ودراسة ما أفضت إليه الحرب الأخيرة على قطاع غزة، ركز كثير من الباحثين في الشأن الفلسطيني على مسألة عدم وجود ظهير إقليمي وسياسي للمقاومة الفلسطينية بوسعه حماية خياراتها السياسية، وأسهب الكثيرون في دراسة التأثير السلبي لتطورات الواقع الإقليمي والدولي على القضية الفلسطينية.
وغالبا ما كانت تنتهي تلك القراءات بتوصيات تدعو لتجنب الانخراط بالصراعات الحاصلة في المنطقة، والاكتفاء بالانتظار السلبي، غير أن تسارع الاستيطان الإسرائيلي والتأثير المتعاظم للاحتلال في صياغة المشهد الفلسطيني، والتهديدات المتتابعة بإمكانية اندلاع مواجهات دموية مقبلة في الأراضي الفلسطينية، يتطلب اجتراح أدوات جديدة في الصراع، وتبني خيارات أوسع تتجاوز ما هو مألوف.
ولعل فكرة "الإسناد الخارجي" لحماية ظهر المقاومة الفلسطينية، من خلال استهداف العدو انطلاقا من دول الجوار، من أهم الأمور التي لا بد من دراستها والبحث في أشكال تطبيقها.
فمعادلة الواقع الفلسطيني القائمة لم تعد تسعف المشروع الفلسطيني، حيث إن الضفة المحتلة ومناطق الداخل الفلسطيني ظلت بعيدة في تأثيرها عن مجريات الحروب التي شنت على القطاع. ولم تشهد دول الطوق أي نشاط حقيقي يمكن التعويل عليه، على الرغم من حالة الفوضى الواسعة التي تغمر العالم العربي.
ويبدو الحراك العربي في هذا الإطار ضرورة للأسباب السابقة، ولأسباب أخرى متعلقة بالدول العربية ذاتها، التي جرى تهميشها واستبعاد دورها في الصراع، حيث إن حالة التفكك والانهيار التي تشهدها المنطقة العربية، أثرت بشكل سلبي على دور الحاضنة الشعبية، وتسبب الربيع العربي بارتدادات قاسية على القضية الفلسطينية، تمثلت بتغير خارطة حلفاء قوى المقاومة الفلسطينية، ومجيء نظام مصري يرى في قطاع غزة مهددا لأمنه القومي.
وتكمن خطورة هذه التطورات في أنها تأتي في وقت تعيش فيه القضية الفلسطينية مرحلة صعبة، يتعزز فيها الفصل الجغرافي والمؤسساتي بين الضفة وغزة، عدا عن حالة الابتعاد الحاصل بين الشتات الفلسطيني والداخل، وترسيخ الاحتلال لمعادلاته واستخدامه لقوة ردع كبيرة في ضرب أي تجمع فلسطيني يتولى مهاجمة الكيان ومصالحه، مرسخا سياسة الردع وتطويره لاستراتيجيات أكثر عدوانية، على غرار "هانبيعال"، واعتماده على "التنسيق الأمني" و "جز العشب" في ضرب بنى المقاومة في مناطق الضفة والقدس.
ضرورة الدور العربي
وبما أن التحولات التي يشهدها العالم العربي، بما فيها تمدد القوى المسلحة خارج نطاق الدولة، وتقلص خطر الجيوش العربية على دولة الاحتلال، تمثل جزءا أساسيا من المشهد السياسي الاستراتيجي في الصراع مع الاحتلال، لا بد من قراءة وإجراءات تتسم بالمبادرة، حيث إن الاحتلال في تصوراته الأمنية كافة، اعتبر ما يدور خلف الحدود خطرا داهما، وسعى باستخدام أدوات عديدة لكبح جماحه.
ومع عودة الحديث عن حرب جديدة في القطاع، تبدو القضية الفلسطينية أحوج ما تكون إلى دعم ومساندة تتجاوز المألوف، فمن غير المعقول أن تتسم جميع الأحداث في المنطقة بالفوضى والانقلاب على السائد، في حين تبقى القضية الفلسطينية محكومة ببعض الأدبيات والاتفاقات والتصورات التي عفى عليها الزمن.
من هنا لا بد من الانطلاق نحو استثمار بعيد المدى للفوضى التي تغمر العالم العربي، بهدف إعادة البعد العربي للصراع مع الاحتلال، بعد أن أثبتت كثير من الحكومات العربية أنها ليست بصدد تقديم أي شيء ملموس للفلسطينيين، ناهيك عن محاربة المقاومة الفلسطينية والسعي لتدمير بناها، بل والتحالف مع الاحتلال الإسرائيلي للعمل على القضاء عليها، كما تجري معركة أخطر لإفقاد المقاومة الفلسطينية حاضنتها في الداخل، من خلال الحصار المصري، والغطاء العربي الرسمي للسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس.
ساحات المواجهة
ويمكن تسليط الضوء على عدد من ساحات المواجهة المستقبلية، التي قد تتحول إلى نقاط مباشرة وأساسية في مواجهة العدو الصهيوني، خاصة من دول الجوار، التي تأتي سيناء على رأسها، بسبب ما شهدته الفترة الماضية من تفجر للأوضاع الداخلية.
مع عدم إغفال أن التنظيمات الجهادية في حال استطاعت الحفاظ على وجودها هناك، ستفقد مصر التوازن الإقليمي فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل. كما أن ضعف مركزية الحركات الإسلامية التقليدية مثل الإخوان المسلمين وتفلت عناصرها في دول الربيع العربي، سيشكل عاملا أساسيا في الدفع نحو رفع مستوى المواجهة مع الاحتلال – في حال اندلعت-.
ويمكن إسقاط الأمر ذاته على دول الجوار الأخرى (سوريا والأردن ولبنان)، بما تحتويه من حدود برية وبحرية طويلة. ويمثل البحر ساحة مواجهة مثالية في حال توافرت الأدوات.