في الوقت الذي يغرق فيه الشرق بموجة عارمة من الثورات التي تحولت إلى صراعات إقليمية، وحالات واسعة من الفوضى غيرت كثير من ملامحه، تبدو منطقة الأناضول مستقرة في زحمة الأحداث والتحولات.
وذلك في ظل مشروع تركي - قومي محافظ - يشق طريقه نحو مزيد من الصعود والتكاتف المجتمعي، حيث تبدو القوى السياسية والأحزاب فيه متوحدة خلف الدولة وإن اختلفت، فآراؤهم السياسية متباينة إلا أن إيمانهم بمصالح بلادهم العليا وطرائق الديمقراطية لم يتغير.
فمن الأخطاء الشائعة لدينا أن ننسب نجاح التجربة التركية بالكلية إلى حزب العدالة والتنمية، والحقيقة هي أن الحزب لم يبدأ في مشروعه الإصلاحي من “الصفر“، بل على العكس تماماً هو أكمل مسيرة طويلة من عطاء المجتمع التركي، الذي استمر لعدة عقود في محاربة الانقلابات، والوصاية العسكرية.
واستفاد اردوغان بشكل حقيقي من هيكليات الدولة ومؤسساتها التي سعى من سبقوه لبنائها على طراز عصري يتوافق والمعايير الغربية, وكذلك على مستوى الإصلاحات والانفتاح على الآخر, استفاد من تجارب من سبقوه, وعلى سبيل المثال ما قام به تورغوت أوزال من قبل حينما أوحى لمستشاره الصحفي, جنكيز جاندار، بطرح فكرة الفيدرالية التركية للمناقشة على صفحات الجرائد اليومية مع زميله البروفيسور محمد الطان, والتي كانت تتضمن: تشريع دستور ديمقراطي علماني ليبرالي جديد، مع منح كافة الأقليات القاطنة في
تركيا حقوقها الثقافية لدفعها للمشاركة السياسية في البلاد، في دولة ديمقراطية وغير أيديولوجية تحترم حقوق الإنسان, وهذا ما يسعى له اردوغان وطاقمه السياسي اليوم لحل مشاكل الأقليات في تركيا, خاصة القضية الكردية, التي كانت تمثل التهديد الأول للأمن القومي.
الانتقال للنظام الرئاسي
تستعد تركيا للانتخابات البرلمانية العام المقبل, والتي تحمل في طياتها أهمية كبيرة لما لذلك من انعكاسات مباشرة على النظام السياسي التركي, فالانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي يتطلب تغيير الدستور التركي, أو إجراء تعديلات كبيرة عليه, وهذا ما يستلزم موافقة أغلبية أعضاء البرلمان على التغييرات الدستورية, ويراهن حزب العدالة والتنمية على الحصول على نسبة أصوات أعلى تؤهله لتمرير دستور جديد, أو الدخول في تحالف مع نواب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي, وهذا ما يتطلب إصلاحات حكومية أكبر في الملف الكردي. وتوجد ثلاثة أمور ستلعب دوراً أساسياً في التأثير على مسار العملية الانتخابية, وهي الخلاف الحاصل بين حزب العدالة والتنمية وجماعة فتح الله كولن, بالإضافة لما ستسفر عنه مسيرة السلام مع الأكراد, والنقطة الأهم هي ما يتعلق بالنظام الرئاسي.
النظام التركي الحالي نظام “هجين“ يجمع مابين النظام البرلماني والرئاسي, ويعود ذلك بشكل أساسي لشخصية
أردوغان المحورية في قيادة التجربة التركية الحالية. ويظهر أن أردوغان بدأ ينتقل للتمهيد بشكل فعلي لتطبيق النظام الرئاسي, حيث كشفت عدة مصادر عن توقيع مرسوم يغيّر الهيكل المؤسسي لمكتب الرئاسة بحيث يضم 13 إدارة جديدة، مما يمهد الطريق لإنشاء إدارة عليا ستعمل تحت إشراف أردوغان على مراقبة عمل مجلس الوزراء.
وجرى الإعلان خلال الأيام الأخيرة الماضية, عن تعيين ناطق باسم رئاسة الجمهورية, في خطوة هي الأولى من نوعها, وكذلك تم إصدار مرسوم يقضى بجعل الموافقة النهائية على المشاريع الاستثمارية لرئاسة الجمهورية .
إعادة توزيع مراكز القوة والنفوذ
بدأ اردوغان وطاقمه السياسية في عملية حساسة جداً لإعادة توزيع مراكز القوة, بعد أن حصنت تركيا جبهتها الداخلية عن طريق جهاز الاستخبارات الذي قاده حاكان فيدان خلال السنوات الأخيرة الماضية. فيما أعلنت وزارة الداخلية قبل عدة أسابيع عن توليها المهام الإدارية والإجرائية المتعلقة بقوات الدرك وقوات أمن الساحل, بعد أن كانت تحت وصاية الجيش التركي.
بالإضافة إلى ذلك جرت خلال الشهور الماضية عملية تغيير واسعة شملت كل البنى الإدارية داخل جهاز الشرطة في معظم المدن التركية. ويتم تداول تسريبات صحفية هذه الأيام تشير إلى توجه حزب العدالة والتنمية لتقديم مسودة قانونية للبرلمان, تسمح بتزود جهاز الشرطة بالأسلحة الثقيلة, علماً أن هذا الاقتراح جرى الحديث عنه أكثر من مرة السنوات الماضية ورفضت هيئة الأركان تمريره ذلك الوقت.
ويتم الحديث كذلك عن توجه الحكومة التركية لاستحداث وزارة جديدة تحت اسم "وزارة الأمن" عقب الانتخابات البرلمانية المقبلة, تتولى متابعة جميع الجهات العسكرية والأمنية في الدولة.
التصالح مع “المحاربين القدامى“
طيب أردوغان عُرف عنه حنكته في عقد التحالفات, وإنشاء العلاقات مع القوى المؤثرة على المشهد التركي, وفي بداية مسيرته السياسية في رئاسة الوزراء عام 2002م قام بعقد اتفاق مع رئيس الأركان التركي “حلمي أوزكوك“ وهو الليبرالي المعتدل, واتفق الطرفان على عدم الصدام, والعمل بما يخدم مصلحة الدولة التركية.
العلاقة مع المؤسسة العسكرية في تركيا ظلت دقيقة, وساعد في الحفاظ عليها وجود شخصيات قيادية معتدلة داخل الجيش, وشهدت هذه العلاقة عدة محطات أثرت عليها, وكان أبرزها قضيتي المطرقة والأرجنكون, التي اُتهم فيها عدد كبير من القيادات الفاعلة داخل الجيش والدولة, وصدر بحقهم قرارات اعتقال.
لم يكن اعتقال ما يقارب 263 شخصا في تلك القضايا بالأمر الهين, وكان بمثابة تحدي كبير للحكومة التركية التي وجدت نفسها في صدام مباشر مع ما يصطلح عليه في تركيا بـ “الدولة العميقة“, إلا أن القضية لم يلبث أن مر عليها عدة سنوات حتى جاء الخلاف مع جماعة فتح الله كولن, ليعيدها مرة أخرى على الطاولة, حيث قامت الحكومة بإلغاء سلطة المحاكم الخاصة التي أشرفت على تلك القضايا سابقاً, وكان لتدخل النواب العامين ممن أشرفوا على تلك القضايا في حملتي الـ 17 والـ 25 من ديسمبر دور كبير كذلك ساعد في إطلاق سراح كافة المعتقلين على ذمة قضايا “المطرقة“ و “الأرجنكون“.
وانطلقت عدة دعوات ممن أُفرج عنهم للتعاون مع الحكومة في مواجهة جماعة كولن, على اعتبار أن الجماعة هي المتورط الرئيس في اعتقالهم, وكان أبرز تلك الدعوات التي صدرت عن "دوغو برينتشاك"رئيس حزب العمال الذي كان قدر صدر بحقه حكم بالسجن لمدة 117 عامًا، حيث قال “سنقوم باجتثاث الجماعة من جذورها“.
لاشك أن إطلاق سراح هذه الفئة المعروف عنها علاقاتها العميقة الممتدة إلى كافة مؤسسات الدولة, أمر ليس بالهين وينطوي على مغامرة كبيرة, ولكن الدولة أرادت بذلك قطع الطريق أمام نشوء أي علاقة بينهم وبين جماعة كولن, وكذلك الاستفادة من خبراتهم في مواجهة الجماعة.
الانفتاح على الأكراد
يحفظ الجميع في تركيا لحزب العدالة والتنمية فضله, ويعترفون بدوره في إيقاف شلال الدم بين أبناء الوطن الواحد, وذلك من خلال مشروع الحزب الذي يعترف بالآخر وبحقوقه, حيث يذكر وزير الزراعة الكردي "مهدي اكر"، لصحيفة حريت ( 19/11/2007 ) بصفته الشخصية، قائلا "إن اعتراف أردوغان بوجود مشكلة في تركيا، اسمها (القضية الكردية) واتخاذه الخطوات الديمقراطية لحل المشكلة سلميا، أدى إلى تغيير الكثير من وجهات النظر المعادية لنا - نحن الأكراد - وزرع الثقة بيننا وبين الحكومة، لأول مرة في تاريخ تركيا الحديث“.
الأكراد عانوا الأمرين في ظل الدولة الكمالية, وتحولت قضيتهم إلى “أزمة داخلية“ بناء على ما نصت عليه اتفاقية لوزان 1923م بعد أن كانت حركة قومية لها الحق في “تقرير المصير“, واستناداً إلى ما ذكرته بعض المصادر فإن الأكراد ثاروا 18 مرة من أجل أهدافهم, خلال حكم مصطفى كمال أتاتورك وحده, كان من أبرزها انتفاضة 1924 وانتفاضة آغري وأحداث ديرسيم 1938م .
وكان تأسيس حزب العمال الكردستاني وإطلاقه للعمل المسلح عام 1984م التطور الأبرز في مواجهة الدولة, حيث أصبحت القضية الكردية تمثل الخطر الأهم, وتسببت بأزمات داخلية وخارجية عميقة, وسبق لعبد الله أوجلان أن قال في أغسطس عام 1993 إن “المشكلة الكردية فرضت طوقًا على السياسة الخارجية التركية”.
التصالح مع الأكراد بدء منذ وصول حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم, وتمكن قبل دخوله الانتخابات من عقد اتفاقية مع ما يقارب 24 رئيس بلدية كردي, ليقدموا له الدعم في الانتخابات مقابل إجراء إصلاحات جذرية.
واعترفت كوندليزا رايس بوجود خطة تركية محكمة لحل القضية الكردية, عقب اجتماعها بالرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن, الذي كان اجتمع مع اردوغان في إحدى زياراته لواشنطن.
وشهدت الأعوام الأخيرة تقدماً كبيراً في ما يعرف بـ “مسيرة السلام“ بين الحكومة التركية والحركة السياسية الكردية, حيث بدأت الحكومة في حوار مباشر بُني عليه عدة أمور حققت انفراجاً كبيراً في العلاقة بين الطرفين, وأدت إلى تحويل الأزمة إلى مشكلة سياسية - قابلة للحل - من خلال المفاوضات بين الطرفين, وستشهد الفترة المقبلة مزيدا من التقدم على هذا الصعيد في ظل اهتمام واضح يبديه الطرفان.
الاهتمام بالعلاقات الخارجية
الدور التركي تنامى في البيئتين الإقليمية والدولية, مستنداً إلى نظرية “العمق الاستراتيجي“ لأحمد داود أوغلو والتي تعتبر أن الموقع الجيواستراتيجي لتركيا, وتاريخها يشكلان دافعاً أساسياً نحو التحرك الإيجابي في كافة الاتجاهات, خصوصاً جوارها الجغرافي.
وهذا ما دفع تركيا نحو التخلص من عزلتها مع دول الشرق, بدلاً من الانشغال بالهرولة نحو “الاتحاد الأوروبي”, وأرادت بذلك التخلص من صفة الدولة التابعة, التي كانت تجعلها على هامش المنظومة العسكرية الغربية “الناتو “ .
تركيا التي استطاعت أن تتحول إلى لاعب مؤثر في المنطقة, ورقم صعب في التوازانات الإستراتيجية الجديدة, ظهر أهمية دورها في الثورة السورية خلال السنوات الأخيرة الماضية, واستطاعت أن تنقذ الثورة مرة أخرى, حينما رفضت الابتزاز الغربي لإشراكها في معركة برية ضد تنظيم الدولة في كوباني, فدخول تركيا البري كان موجهاً نحو محاربة تنظيم الدولة, مما يعني دخول تركيا في معارك واسعة ستتجاوز كوباني لتصل إلى العمق السوري, وهو ما كان سيورطها في صدام كذلك مع التعقيدات السورية الداخلية, ويجعلها تعترف بالنظام كأمر واقع لا مفر من التعامل معه.
ولم يقتصر الدور التركي على التفاعل مع المشهد السوري, حيث سعى خلال الفترة الماضية لتحقيق إنجازات كبيرة فيما يتعلق بمجال الطاقة, وهو ما بدا في عدد واسع من الاتفاقيات التي جرى توقيعها مع روسيا وكردستان العراق وقطر.