قضت محاولة الانقلاب الفاشلة على محاولات التماهي بين الحركة الإسلامية بشقها، التقليدي وجماعة فتح الله
غولن في
تركيا. فمن الواضح أن العلاقة بين الطرفين ظلت قائمة على "التنافس"، لتنتقل إلى مرحلة "المواجهة" بعد أن تمكَّن الطرفان، ولم تكن "المصالح المشتركة" مبرراً كافياً لاستمرار التحالف الضمني، والذي استمر لسنوات عديدة، عقب وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم.
بعيداً عن التفسيرات الرائجة لدوافع المحاولة
الإنقلابية الفاشلة، تظهر هناك قضايا خلافية كانت تتقد تحت الرماد، وخلفيات أسست لهذا النوع من الصراع الدامي. فانقلاب بهذا الحجم لا شك ستكون له دوافع ومنطلقات مختلفة، وتراكما كبيرا للجهود. وعند الرجوع للسياق التاريخي للمواجهة، وارتباطات الجماعة غير الواضحة، والتوسع الكبير الذي طرأ على هيكلياتها ومؤسساتها مع مرور الوقت، وطبيعة الخطاب الذي تقدمه لأفرادها، تبدو الدوافع المحركة للمنفذين لهذه العملية أوضح للعيان.
الصراع على احتكار تمثيل التيار الإسلامي
تعتقد جماعة فتح الله غولن بأنها صاحبة الحق في تمثيل التيار الإسلامي التركي، وتستند في ذلك إلى نظرة سلبية ودونية للحركات الإسلامية الأخرى، وهو ما يظهر في خطب غولن وأحاديثه المتكررة لعناصر الجماعة، مطالباً إياهم بالحذر من "خذلان المسلمين" كما فعلت الجماعات الإسلامية من قبل، مثل التبليغ والإخوان. ويمكن لنا أن نقدم للمواجهة بين الحكومة والجماعة، باعتبارها استنئافاً للخلاف التاريخي بين عموم "الحركة الإسلامية التركية" و"الجماعة"، حيث أن الأخيرة مثلت حالة متمردة على الحركة الإسلامية التقليدية المنبثقة عن الطرق الصوفية وحركة الأستاذ سعيد النورسي. ويذكر أن غولن بدأ حركته بالانفصال عن جماعة القراء - وهي إحدى أذرع جماعة النور - بعد خلافات نشبت بينهما، واتهامات وجهت لغولن بمحاولة تقديم مواعظه وكتاباته على مؤلفات النورسي.
ومن ثم انتقل الخلاف ليطال باقي الحركات الإسلامية، ليصل مرحلة التمايز، فآراء الجماعة السياسية وبعض مواقفها الدينية، تسببت بحدوث شرخ بين الطرفين، حاولت الجماعة استغلاله لإظهار نفسها باعتبارها الجهة الأكثر تمدناً، والبديل الأكثر توافقاً مع المعطيات التي يفرضها الواقع. وكانت الفترة التي أعقبت انقلاب 28 شباط/ فبراير 1997م من أهم مراحل الخلاف، حينما اعتبر غولن الحجاب شيئا من الفروع، لا يستلزم مواجهة الدولة على أساسه، ما تسبب في حينه بإحباط حراك كبير؛ قادته الجماعات الإسلامية ضد قرار الحكومة بمنع المحجبات من دخول المؤسسات التعليمية، في عام 1997. وشن غولن في تلك الفترة هجوماً شديد اللهجة على هذا الحراك، وأصدر فتوى للفتيات التابعات للجماعة يجيز لهن فيها خلع الحجاب. ومن ثم كان موقف غولن من الغرب ومواقفه السياسية تجاههم سبباً آخر لتعميق هوة الخلاف بين الطرفين، بالإضافة لموقفه المعروف من حادثة سفينة مرمرة، وانتقاده للقائمين عليها. وكانت الجماعات الإسلامية في تركيا، تحذر بشكل مستمر من حركة غولن، وخطورتها، من خلال المجلات والمنشورات واللقاءات الداخلية. وكانت الصحف العلمانية تلعب على وتر هذا الخلاف، وتسعى لاستثماره من خلال تصوير الجماعة باعتبارها جهة متنورة، في مقابل حزب الرفاه "المتطرف"، وهو ما ظهر عقب انقلاب 28 شباط/ فبراير بشكل واضح.
كما أن الجماعة نازعت الأوقاف والجمعيات الإسلامية، وحاولت عرقلة نشاطها، خاصة تلك التي كانت تعمل في الجانب التعليمي، وبدا هذا الأمر أوضح ما يكون في محاولة إثارة قضايا فساد ضد وقف "türgev" الذي كان مهتماً بإنشاء سكنات طلابية للفتيات التركيات، وتم تسريب وثائق تثبت تبرع رجل الأعمال السعودي "ياسين القاضي" بعشرات ملايين الليرات للوقف، ما تسبب بعد فترة باستهداف "القاضي" وعضو مجلس إدارة الوقف "بلال أردوغان"، وتم وضعهم في حينه على قائمة الأشخاص المفترض اعتقالهم، في 25 كانون الأول/ ديسمبر 2014م، وهي حملة كانت تنوي الجماعة تنفيذها ضد عدد كبير من رجال الأعمال، والشخصيات المقربة من حزب العدالة والتنمية. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة التركية سعت لإنصاف بعض الحركات الإسلامية التي تعرضت لإضطهاد الجماعة، مثل "جماعة التحشية" التي تعرض شيخها "محمد دوغان" للسجن 17 شهراً، وجرى تشويهها بشكل كبير، من خلال وسائل الإعلام التابعة للجماعة. وكان دوغان قد أشار إلى أن خلافه فقهي مع "فتح الله غولن" في مسألتى الحجاب وأموال الزكاة.
مواجهة تيار إيراني مزعوم داخل الدولة
عكفت الجماعة على تغذية عناصرها بصورة منظمة ومدروسة ضد عدد من القيادات البارزة في الحكومة وحزب العدالة والتنمية، كان أبرزهم هاكان فيدان، وبشير أتلاي، وإبراهيم كالن، باعتبارهم شخصيات إيرانية، وأشاعت في إطار ذلك أكاذيب عن انتشار "زواج المتعة" في تركيا.
التحريض على أردوغان وحزب العدالة والتنمية باعتبارهم تبعاً لإيران، لم يقتصر على أفراد الجماعة، بل كان هناك توجه واضح لإثارة مخاوف الشارع التركي حول وجود "اختراق إيراني"، من خلال وسائل الإعلام، وقامت الجماعة ببث مسلسل تحت عنوان "osmanl?'da derin devlet" يشير إلى دور الشاه في اختراق الدولة العثمانية، وختمت المسلسل في حينها بمقولة تشير إلى أن إيران لن تكف عن اختراق كافة مفاصل الدولة التركية. وكان هذا كله قبل اندلاع المواجهة مع حزب العدالة والتنمية، ما يؤكد وجود توجه مسبق لاستهداف الحكومة التركية.
الأمر الآخر، عبّرت عنه طبيعة الأهداف في حملة 17 كانون ديسمبر/ ديسمبر 2014، والتي قامت بها الجماعة من خلال أذرعها في سلكي القضاء والشرطة، حيث جرى اعتقال رجل الأعمال الإيراني رضا ضراب، المتهم بنقل الأموال بين إيران وتركيا، واعتقال مدير بنك "خلق" الذي قيل إن كثيرا من الأموال التي كانت تذهب لإيران في فترة العقوبات كانت تحول من خلاله.
كما تجدر الإشارة إلى أن الجماعة لعبت دوراً مهماً في تعزيز نفوذ تركيا في مناطق آسيا الوسطى، ودول البلقان، من خلال إنشاء المدارس والمؤسسات التعليمية، وهو ما فسره البعض بمحاولة التصدي للنفوذ الإيراني في تلك المناطق، خاصة بعد قيام الثورة في إيران وتوجه نظام الحكم هناك لتصدير أفكاره إلى الخارج، علماً أن المدارس التركية في الخارج كانت تلقى دعماً من بعض مؤسسات الدولة.
الثأر للجماعة
في حالة مثل جماعة فتح الله غولن، تضاءلت أهمية ومحورية "الفكرة" لصالح "بنية الجماعة ومؤسساتها"، حيث أن التعاظم الكبير في بنية الجماعة، ودخول أعداد كبيرة من المنتسبين لها في عهد الاستقرار والرفاه - خاصة بعد عام 2002م - وتباين الخلفيات والتنوع الكبير في عناصرها، جعلها إطاراً جامعاً لكثير من أصحاب المصالح. وليس سراً أن كثيراً من الطلاب كانوا يسعون للارتباط بالجماعة في سنوات الدراسة الجامعية، طمعاً في الحصول على وظيفة داخل مؤسسات الدولة بعد التخرج.
بنية الجماعة الكبيرة، وتداخلها العضوي مع مؤسسات الدولة، وحالة التماهي مع السياسات العامة للجمهورية التركية منذ ما يقارب 40 عاماً، جعل الجماعة تبدو وكأنها أحد أذرع الدولة، فلم تدخل في أي مواجهة علنية مع أياً من أنظمة الحكم السابقة، واستطاعت أن تحصل على امتيازات حقيقية من الدولة التركية، سواء على الصعيد المالي أو السياسي، فكانت تحوز على اهتمام السفارات والقنصليات في الخارج، وتحصل على أراض وممتلكات من الدولة لمؤسساتها المختلفة.
هذا الأرث والتراكم الكبير في العلاقة بين الطرفين، حتم على الجماعة مواجهة بقواعد محددة - ليست في صالحها - فهي غير قادرة على إدارة صراع "جزئي" في مثل هذه الحالات، فكان الأمر يستدعي إزاحة الرئيس أردوغان، بغض النظر عن الوسائل.
واستغلت الجماعة في هذا السياق؛ حالة الامتعاض الغربي من سياسات حزب العدالة والتنمية، بل وسعت الجماعة لتشكيل صورة سلبية في الرأي العالمي، عن أردوغان، وقامت في إطار ذلك، بإيقاف شاحنات تابعة لجهاز الاستخبارات، في كانون الثاني/ يناير 2014، كانت في طريقها إلى سوريا، وجرى الحديث يومها عن ذهاب هذه الشاحنات لتنظيمات جهادية، وكان صحفيون تابعون للجماعة حاضرين في المكان للترويج لهذه الراوية، كما جرى تنفيذ عمليات مداهمة وتفتيش لمؤسسات إغاثية تركية مثل "ihh" في إطار تجميع أدلة ومعطيات على علاقتها بالحكومة والتنظيمات "الجهادية".
تفجر الخلاف بين الطرفين، بدأت الجماعة بحملة تحريضية واسعة ضد الحكومة التركية، في عام 2013م، عقب إعلان وزارة التعليم توجهها لإغلاق مراكز التعليم الخصوصي، والتي تستحوذ الجماعة على جزء كبير منها، وهي التي تشكل مصدراً مالياً وبشرياً كبيراً للجماعة.
وكانت قضية مراكز التعليم الخصوصي السبب الرئيس الذي دفع عناصر الجماعة ومناصريها للتهجم على الحكومة، وكان هذا القرار كافياً لإشاعة مشاعر الكره والعداء ضد أردوغان لدى قواعد الجماعة الشعبية، حيث تم استغلال ذلك لتجنيد كافة عناصر الجماعة في هذه المواجهة، من خلال إصدار قرار ملزم لكافة المنتسبين للجماعة، يقضي بضرورة فتح حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي - خاصة تويتر - للتهجم على الحكومة واستهدافها، خاصة أن هذا القرار تبعه تسريب تسجيلات ومكالمات لمسؤولين أتراك تثبت تورطهم في قضايا "فساد".
وتبدو محاولة الانقلاب في سببها المباشر؛ محاولة من عناصر الجماعة للحفاظ على وجودهم ومواقعهم وبنيتهم الكبيرة داخل الجيش، خاصة أن الحكومة التركية كانت قد جهزت قوائم تضم أسماء المئات من العناصر المرتبطة بالجماعة داخل الجيش، لإقالتهم من مواقعهم، خاصة الجنرالات والأدميرالات.