لا شك أن
تركيا تحاول إعادة تموضعها مع حالة عدم الوضوح السياسي التي باتت ملازمة للمنطقة العربية، فالسياسة الخارجية التركية تحاول في أتون ذلك الاتساق مع ذاتها على الرغم من حركتها الثقيلة. ومما يعين على فهم الدور التركي في المنطقة هو قدرتنا على استيعاب بنية النظام السياسي في تركيا، ونظرة الساسة عندهم للمنطقة. فالمشرق أصبح وجهة السياسة التركية في السنوات الأخيرة، وجاء الاهتمام التركي بما يحصل في المنطقة مع انفجار الصراعات واشتعال النيران في دول الجوار، وجاء هذا التحول في السياسة التركية بعد ما يقارب الـ90 عاما على تأسيس الجمهورية التركية، وهي فترة أقصر بكثير من تلك الفترة التي استغرقها العثمانيون للتوجه نحو المشرق.
(1)
بدا الأتراك أكثر روية في التعامل مع الأحداث والتغيرات الأخيرة التي ألمت بالمنطقة، حيث تباينت رؤيتهم السياسية مع الرؤى الغربية الأخرى، وهو ما قاد إلى شيء من عدم الثقة مع الأمريكان وبعض الدول الغربية. وظهر ذلك بشكل واضح في عدم مشاركة تركيا في التحالف الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية لمحاربة تنظيم
داعش، وحافظ الأتراك على مسافات وهوامش تمنحهم قدرة على المناورة، وكان الحرص واضحاً على عدم الاصطدام بالمكونات السنية، وتجنبوا في إطار ذلك معاداة القوى الجهادية.
وكانت المقاربة التركية لشؤون المنطقة تروم محاربة ما يُسبب الإرهاب لا ما ينتج عنه، فاحتلت هزيمة النظام السوري الأولوية، وجرى التركيز على سبل مواجهة ومحاصرة المد الكردي المسلح. وهو ما دفع بتركيا للتمرد على سياساتها الخارجية القائمة على تصفير المشكلات، وقامت بالعمل على توفير كل سبل الدعم للقوى المعارضة لنظام بشار الأسد، وسهلت عبور المقاتلين الأجانب إلى الداخل السوري. وبات واضحا على أن تركيا تحاول أن تدفع بآخرين ليقوموا بما لا تستطيعه، وسبق لكثير من الدول أن انتهجت سياسات كهذه للتخلص من أعدائها، فالأمريكان قاموا في ثمنينيات القرن الماضي بالتعاون مع السعوديين والباكستانيين لدعم "المجاهدين الأفغان"، وسهلوا مجيء المقاتلين في ذلك الوقت من كافة أنحاء المعمورة لهزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
(2)
الصعود المريب لتنظيم داعش وسيطرته الواسعة على مساحات شاسعة في فترات قصيرة، وما تبع ذلك من إعلان أمريكي عن تحالف دولي لهزيمته، لم يرق لتركيا كثيرا وقررت في حينها عدم المشاركة المباشرة في التحالف، خاصة أن موقفها كان مرهونا بحياة 43 دبلوماسيا اعتقلهم التنظيم عقب سيطرته على مدينة الموصل العراقية.
بالإضافة إلى أن الموافقة التركية على الاشتراك في الحملة الدولية كانت ستقودها إلى سيناريوهات مجهولة وغير محمودة العواقب، خاصة أن تركيا تمتلك حدودا واسعة مع سوريا والعراق، وهو ما كان سيمهد بالضرورة إلى التعامل مع نظام الأسد باعتباره أمرا واقعا في ظل الشروط الأمريكية لحصر المعركة مع تنظيم داعش.
الموقف التركي الذي لم يرق للدول الغربية، تسبب في اتهامها بالتحالف مع تنظيم داعش، ووصل الأمر مداه حين هاجم التنظيم مدينة عين العرب السورية، حيث انطلقت أحداث شغب واسعة في المدن التركية على أثر ذلك، وتناولت الصحف الغربية الموقف التركي على اعتباره متواطئا مع هجوم التنظيم على المدينة. وشرعت منذ ذلك بالترويج لدعوات بدأها برنار هنري ليفي لإخراج تركيا من الحلف الأطلسي.
(3)
الموقف التركي من الحركات الجهادية وتنظيم داعش في سوريا قائم على بعد مصلحي يراعى فيه الأتراك الأمن القومي لبلادهم، ويبدو سخيفا الحديث عن دوافع إيديولوجية أو نظرة مشتركة لعمل مستقبلي بين الطرفين. فتركيا التي أرسلت السلاح ووفرت المأوى لكثير من قادة الفصائل الجهادية السورية، لم تكن مستعدة لرفع سقف دعمها للحركات الإسلامية المحسوبة على الإخوان المسلمين ومن بينها حركة حماس، على الرغم من قربها أكثر من الإيديولوجيا الإسلامية التي يعتنقها الصف الأول في قيادة حزب العدالة والتنمية.
بالإضافة إلى أن الحركات الجهادية العاملة في الداخل السوري، لا تحمل الكثير من العداء للأتراك، بعكس الأطراف الكردية الأخرى التي تضع "الانفصال" صوب عينيها، وكذلك النظام السوري الذي تورط سابقا في تنفيذ تفجيرات في الداخل التركي، ولا يزال يحتفظ بعلاقات وثيقة مع تنظيمات يسارية لا تنفك عن السعي لتنفيذ عمليات إرهابية.
مع الإشارة إلى أن منطق الدول في التعامل مع الأخطار يختلف بحجم الدول وطبيعة مكوناتها وموقعها، فللموقف التركي محدداته ودوافعه التي تحتم عليه إيقاف المد الكردي وهزيمة النظام السوري كأولوية.
(4)
في المحصلة؛ ميدانيا يسعى الأتراك إلى عدم توسيع دائرة المواجهة عسكريا مع تنظيم داعش، بحيث يكون سقف الحراك العسكري إزاحة التنظيم عن المناطق الحدودية المحاذية لتركيا، مع الأخذ بعين الاعتبار عدم تركها شاغرة للقوات الكردية التي تعيش حالة صراع مع التنظيم، وهو ما سيدفع بالأتراك للتواصل مع قوى محلية مختلفة للسيطرة على تلك المناطق.
وعلى الصعيد السياسي ستواصل الحكومة التركية جهودها مع القوى الدولية لفرض منطقة آمنة على الحدود السورية، بالشكل الذي يتوافق مع خططها العسكرية، بالإضافة لخطوات عدة قد تترافق مع ذلك من قبيل نقل مخيمات اللاجئين إلى الداخل السوري.
ومما ينبغي الإشارة إليه أن التحرك العسكري الأخير هو حراك دفاعي ووقائي بالدرجة الأولى، ولا يحمل في طياته أهدافا توسعية، ومهاجمة الأتراك لجبال قناديل ومعسكرات حزب العمال الكردستاني، يراد بها التأكيد على أولويات الدولة التركية في مجابهة الأخطار التي تهدد أمنها القومي، وتحمل كذلك في طياتها رسالة إلى الأمريكان مفادها أن الصعود الكردي غير مقبول به، ولا يمكن نفي الأهداف السياسية الداخلية لحزب العدالة والتنمية الذي يسعى إلى الحصول على دعم الحركة القومية، وكذلك إلى فرض حالة من العزلة السياسية على حزب الشعوب الديمقراطية بحيث يحول ذلك دون دخوله في أي من التحالفات مع قوى المعارضة التركية الأخرى.