قال لي صاحبي الشاب نوري النازح مثلي: قسما بأسماء الله الحلوة والحسنى، الألمان قوم صبورون، وأيم الحق إنهم صبورون وكأنهم سيعيشون إلى الأبد، بالهم طويل جدا يا خال. ما وجدت أصبر منهم من بين الأقوام التي أعرفها.
قلت: معك بعض الحق يا سبعي المصفد بالسلاسل، إنّ لي قولا في هذا الصبر، دولتهم دولة قانون، أما دولتنا فدولة الطبل. وفي تصنيف الأخلاق والسجايا، تشتهر مؤسساتهم بالحلم. والعدل سيد الأحكام والحكمة. ويجب التفريق بين صبر الفرد وصبر الدولة، وإذا كنت تقصد صبرهم على النازحين، فثمة من يرى أنهم مكسب كبير، سنتان أو ثلاث ويصيرون عاملين ومنتجين، بينما في بلادنا يطول الأمر والزمن بهم 25 سنة حتى تصير الثمرة الإنسانية منتجة.
قال نوري: خنزير مدرب أحسن من عشرة أباعر على الشجرة، تصور أن العرب المسلمين في الديار المقدسة سخطوا على أهلهم وعلى بعير أهلهم أيضا، فماتت من العطش والجوع على حدود قطر والسعودية، لا أفهم سبب الخلاف؟
قلت: لعله الحسد. ويصدق عليه مقلوب قول الشاعر: أحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري.
قال: ولكن يا خال هذا حصار خمس نجوم بالمقارنة مع حصار سوريا.
قلت: الحصار درجات، والناس عزائم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وما يحدث في سوريا من ظلم لم يره حتى أصحاب الأخدود.
قال: أمس تابعت فلما لصحفية ألمانية تطوعت للصوم، وقالت: إنها لن تكرر هذه التجربة القاسية المذهلة، نحن نصوم عن الماء والطعام والنظر إلى الحسان، لكننا عديمو الصبر، ما السبب خال؟
قلت: إنْ صَبِرْنا، فعلى قضاء الله، لكننا عديمو الصبر على قضاء البشر. الصبر يضيق مع اليأس والشدة، ويتسع مع الإيمان والأمل. المشكلة هي الترتيب والموالاة: الحق في سورة العصر يأتي قبل الصبر وهو الركن الرابع في الفوز بالجنة، لا بد من قول الحق قبل الصبر والمصابرة، ما تقوم به أنظمتنا هو قتل رعاياها صبرا. يمكن القول: إن عدد سكان سوريا 20 مليون مصبور صبرا، أي محنطين انتظارا. الصبر في بلادنا مسموم.
قال: تصور يا خال، أعرف لاجئا تشكُّ السلطات الألمانية به، فلم تمنحه الإقامة، وهو يعيش منذ قدومه في فندق ثلاث نجوم، مضى عليه ثلاث سنوات، ولم تبت السلطات بأمره بعد.
قلت: أنا أعرف باكستانياـ روت لي موظفة السوشيال قصته، قالت: إنه يعرف أسرار القانون الألماني ويستغلها، وقد مضى عليه ربع قرن وهو يعيش على حساب الدولة الألمانية من غير عمل!
قال: الموظف الألماني دائم الابتسام، تذهب إليه بموعد، فإن كانت الوثائق ناقصة أجّلك إلى موعد جديد يبعد عن الأول شهورا، كأنهم سيعيشون إلى الأبد.
قلت: حكوماتنا أيضا تصبر على ضحاياها، انظر إلى المعتقلين السياسيين عندنا، يلبثون وراء الشمس أحقابا من غير محاكمة، لكنّ صبر الألمان معسول عكس صبرنا المسموم، فنحن نفتقد ضروريات الحياة، الدولة راسخة، والقوانين واضحة، عندنا صلاحية شهادة الثانوية العامة عمرها سنة واحدة، أما الرئيس فصلاحيته إلى الأبد.
قال: يجددون العقود كل ستة أشهر، ويغيرون الموظف المسؤول في المؤسسات الاجتماعية كل ستة أشهر، ما فهمت السبب خال؟
قلت: أظن أنها وسيلة لتدوير الموظف على كل الدوائر، منعا للملل، وتعليما له وتدريبا، والسبب الثاني حتى يمنحوا اللاجئ فرصة جديدة، إن أضّغن الموظف عليه لسبب أو آخر.
قال: حتى الآن أحاول فهم الحِلم الألماني، فلا أجد تفسيرا؟
قلت: هناك حكاية عن ملك، أعلن عن مسابقة في البلاد، وجائزة كبيرة لمن يعرف أين يقيم العقل، بعضهم قال: في الرأس، وبعضهم قال: في القلب، وفاز شيخ بالمسابقة.
نوري: ما هو الحل خال؟
قال: العقل في الصبر.
نوري: الجنون أيضا في الصبر خال.. الصبر، وبأمل متنكر في هيئة اليأس.
قلت: عشنا في قانون الطوارئ نصف قرن يا سبعي. نحن نستحق أوسكار الصبر والمصابرة.
قال: فعلا، حكمتنا أسرة بمخابراتها وزعرانها نصف قرن، ولم نتأوه!
قلت: صبر العبيد غير صبر الأحرار يا سبعي، وصبر السعيد غير صبر التعيس، والانتظار قصر وحرق للأعمار، صبرنا على الظلم نصف قرن، ولم يصبر الغرب على مرسي سنة واحدة، فجاؤوا بمن يفرض الطوارئ.
قال: عندهم في صالات الانتظار هناك دائما ألعاب أطفال، حتى لا يضجر الطفل، ومجلات لتسلية الكبار.
قلت: وحكومتنا صبورة جدا، كل فترة تقصفها إسرائيل، فيخرج ناطق رسمي، ليقول: سنردُّ بالمكان والزمان المناسبين، هذا صبر ليس له حدود، وتستحق حكومتنا جائزة نوبل الصبر. حكوماتنا العربية حليمة مع العدو، غضوبة معنا، يتبعون الآية: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ، بعد تبديل المواقع!
قلت: لا تنس! لقد عشنا نصف قرن، وحكوماتنا تصبّرنا وتقول.. انتظروا التوازن الاستراتيجي.
قال: ما هو التوازن الاستراتيجي؟
قلت: هو الاسم السياسي البعثي للمهدي المنتظر.
كنا جالسين في الحديقة، عندما وقفت سيارة أمام السور، وخرجت منها صبية ألمانية، لوّحتْ لنوري.
قال المستورد القرشي، عند عمرو بن العاص: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «تقوم الساعة والروم أكثر الناس» فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالا أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك-حديث صحيح مرسل
عماد كنعان
الثلاثاء، 27-06-201712:16 م
أسلوب جميل واضح مؤلم ساخر تقرأئه مبتسمأ ولسان حالك يردد لا حول ولا قوة إلا بالله.