لا شكّ أنَّ عمليّة "
غصن الزيتون" التي أسفرت عن طرد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) من
عفرين وريفها؛ مكسب عسكري وسياسي لتّركيّا، ولا سيما أنّها استغرقت فترة وجيزة (ما يقارب شهرين) من الزَّمن، وبخسائر محدودة بالعدد والعتاد، مقارنةً مع حجم المعركة وطبيعة الأرض والخصم. فلم يتوقع الأتراك أنفسُهم أن تسيرَ المعركة بهذه السلاسة والسُّرعة، وربما هذا ما أثار شكوكاً كثيرة حولها من قبل الكرد.
ومهما تكن الأسباب والظّروف التي أدّت لهزيمة المليشيات الكرديّة في عقر دارها، فإنَّ هذه المعركة وضعت الأتراك وحزب "PYD" المتّهم بالتبعيّة لحزب العمال الكردستاني؛ أمام خيارات صعبة، وربما مُرَّة، ولا سيما للحزب الكردي.
ومن الخيارات التي تواجه تركيا:
- مطالبتها من الشارع الثّوري بتحرير المناطق العربية (تل رفعت، الشيخ عيسى، حربل، منغ، أم حوش...) الواقعة تحت سيطرة المليشيات الانفصاليّة، حيث خرجت مظاهرة للأهالي عند معبر "باب السلامة" الحدودي تطالب قوّات "غصن الزّيتون" بعدم وضع السِّلاح حتّى تحرير هذه المناطق. ووعد الرَّئيس التّركي لاحقاً المتظاهرين بالاستجابة لمطلبهم؛ لأنّ القيادة التّركيّة تدرك جيّداً أنَّ تركَ المناطق العربية بيد الكرد سيجعل الثوّار المشاركين في عمليّة غصن الزيتون مرتزقة في أعين كثيرين. ورغم الأخبار الواردة عن تحقق هذا المطلب من خلال الاتفاق الرّوسي التّركي الذي عقد في بلدة كفرنايا، وتمّ الاتفاق فيه على تسليم المناطق لقوّات "غصن الزيتون"، فإنّ هذا الاتفاق يمنع (على الأقل مؤقتاً) حصول مواجهة بين قوّات النّظام السّوري وتركيا، لكنّه يبقي احتمال المواجهة مفتوحاً ورهناً للتطورات العسكريّة والسياسيّة. وهذا الصّدام إن حصل في المستقبل القريب؛ فسيمثّل مأزقاً للأتراك الذين يركّزون جهدهم على محاربة القوّات الكرديّة الانفصاليّة.
- طرد المليشيات الكرديّة إلى شرق الفرات، وتطهير المناطق الواقعة غرب الفرات، ولا سيما منبج. فهذه المناطق تختلف عن عفرين، فرغم أنَّ الغالبية السَّاحقة لأهلها من العرب، لكنّ القوّات الكرديّة تحظى بحماية أمريكيّة، مّا يتطلب اتفاقاً مع الأمريكان الذين قد ينسحبون من تفاهماتهم الأخيرة مع الأتراك، تماماً كما أخلَفَ أوباما وإدارته وعودهما السّابقة. وقد ذكر وزير الخارجية التركي أنّ ما جرى مع الأمريكان تفاهمات لا اتفاق. والصّدام مع الأمريكان في ظل حكومة يمينيّة لا يصبُّ في صالح الأتراك ولا يخدم حربهم، بل يعيقها وربما يفشلها.
- خطر الفيدراليّة الكرديّة شمال شرق
سوريا، فلا يستطيع أحد الاقتراب من المناطق الواقعة شرق الفرات ما دامت تحت النّفوذ الأمريكي. وقد جرّب الرّوسُ عاقبة ذلك فخسروا أكثر من مئة قتيل في ساعات. ويتوقع أن تبقى الأمور في هذه المناطق على وضعها؛ بانتظار نضوج حلّ سياسي يُرضي الأطراف المتصارعة والمتحكمة، ولو بالحدود الدّنيا. ولن ترضى القوّات الكرديّة بأقل من حكم ذاتي أو فيدرالية، وهو ما يرفضه الأتراك.
ولعلّ الخيار الأصعب لتركيا يتمثل باصطفافها إلى جانب روسيا التي منحتها الضّوء الأخضر لعمليّة عفرين، فالتّقارب التركي الرّوسي يزيد من ضغينة الغرب تجاه تركيا، وخاصة بعد أزمة طرد الدّبلوماسيين الروس من أوروبا والولايات المتحدة، تضامناً مع بريطانيا. فعمليّات الطرد تخفي وراءها ما تخفي، ويُستبعد أن يكون سببها محاولة قتل جاسوس فقط. وسوء العلاقات التركية وتدهورها مع الغرب سينعكس سلباً على الدّاخل التركي، وربما انخفاض قيمة الليرة التّركية يأتي في هذا السّياق، ناهيك عن الارتدادات العسكريّة. ويبقى الاختيار بين الرّوس والغرب مرّا أيا كان نظراً لمساوئ كل خيار.
أمّا الخيارات الصّعبة التي تواجهها القوّات الكرديّة، فتتمثّل في:
- حالة الإحباط التي تعيشها الأحزاب الانفصاليّة نتيجة هزيمة عفرين، والغضب الشّعبي تجاه هذه الأحزاب التي أغرقت الجماهير الكرديّة بأحلام معسولة. فما حدث في عفرين يماثل في ارتداداته النَّفسيّة ما حصل عقب استفتاء إقليم كردستان، حتى وصل الأمر، وفق المعارض الكردي عبد العزيز التمو، إلى نيّة "PYD" تغيير اسمه إلى "حزب سوريا الغد".
- المضي في تحالفات المصلحة الكاذبة والتّبعيّة للقوي، فاتفاقات
الوحدات الكردية وتحالفاتها مع النّظام لم تنفعها في شيء سوى إثارة الوسط العربي ضدها. فرغم مشاركتها في إخراج الثوّار من حلب بدايةً، وتسليم الأحياء التي سيطرت عليها لقوّات النِّظام دون طلقة واحدة ثانياً، فإنّ ذلك لم ينفعها في شيء، حيث لم يستجب النّظام لاستغاثاتها، واكتفى بإرسال قوّات شعبيّة لذر الرّماد في العيون. واستمرار مهادنتها للنظام سيوقعها في الفخّ نفسه في مناطق أخرى. أمّا تحالف التّبعيّة للروس، فكان وبالاً وخبالا عليها. فقد سيطرت الأحزاب الكرديّة منذ عامين على مناطق عربيّة تحت غطاء جوّي روسي، واليوم تخلّى عنها الرّوس بأبخس ثمن، وبطريقة مهينة، وربما يتخلّى عنها الأمريكان في منبج وما بعد منبج. وما حصل يضعهم أمام خيارٍ صعب ومر تجاه تحالفاتهم مع الأمريكان؛ لأنّها تدرك أنها تُستَخدم كأدوات لتنفيذ مشاريع غيرها.
- تبخّر مشروع دولة كردستان الكبرى، وحلم الوصول للبحر أو وصل المناطق الكرديّة جغرافيّاً، وبالتالي العمل على برنامج سياسي آخر يلبّي مطالب الحدود الدّنيا للشعب الكردي. وتجد الأحزاب الكرديّة صعوبة في إجراء مراجعة نقديّة تعترف بالأخطاء، ولا سيما أنّها خوّنت وحاربت كل التّيارات والأحزاب الكرديّة التي طرحت مشاريع وطنيّة تستجيب لمطالب الكرد ضمن الدّولة الوطنيّة.
- خيار البقاء في المناطق العربيّة، سواء غرب أو شرق الفرات أيّاً كانت القوّة الدّاعمة، فالقوّات التي لا تستطيع على مناطق ذات غالبيّة كرديّة "عفرين" الأجدر بها الانسحاب من مناطق ذات غالبية عربيّة لا تتجاوز نسبة الكرد فيها 5 في المئة. فهذا الوجود يثير الأحقاد والضغائن ضد المكوّن الكردي. ولسنا في صدد ذكر الأسباب التي تحول دون ثورة الشّارع العربي على الأحزاب الكرديّة، رغم تهيّؤ كل الفرص لذلك، ولم يعدم ذلك وجود مظاهر مسلحة لرفض الوجود الكردي، كما حدث في المنصورة قرب الرقة، حيث اندلعت اشتباكات بالأسلحة الخفيفة مساء الأحد الماضي بين عشيرة "البوخميس" وقوات "سوريا الديمقراطية" بعد اعتقال "بشير الهمشر"، شيخ العشيرة الذي طالب القوّات الكرديّة أكثر من مرّة الانسحاب من الرقة وكل المناطق العربيّة.
- إنّ الخيارات المتوفّرة لن تؤدي لحلٍّ ما؛ لأنّ المسألة تتعلّق بقضيّة تمتدّ عقوداً من الزّمن حيث يصعب على الأحزاب الكرديّة الانفصاليّة التي تخوّن الكرد أنفسهم تغيير نهجها، ويستحيل في الوقت عينه تجاهل الأتراك لمشاريع هذه الأحزاب التي قويت شوكتها نتيجة الدّعم من بعض الأطراف الدّوليّة. ويمكن للخيارات الصّعبة أن تكون سهلةً لو تُرِكت السّاحة للأحزاب الكرديّة الوطنيّة للحصول على الحقوق الكرديّة ضمن الدّول الوطنيّة الحاليّة، فالمنطقة لا تقبل مزيداً من التَّفتُّت.