هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أكد تقدير استراتيجي صادر عن مركز "الزيتونة للدراسات والاستشارات"، أن "الترتيبات الجديدة لعقد تهدئة/ هدنة بين حركة "حماس" والاحتلال الإسرائيلي أهمية خاصة يفرضها السياق الجاري، ولا سيّما مع استمرار مسيرات العودة على الحدود في قطاع غزة، وتعثّر جهود المصالحة، وتصاعد التوتر في العلاقات الداخلية الوطنية، وإقدام الإدارة الأمريكية على خطوات خطيرة في سياق ما يُدعى بـ"صفقة القرن".
وأشار التقدير إلى أنه وبالنظر إلى تعقيد الوضع الراهن، وكثرة الفاعلين في هذه المسألة، وما يحفّ المنطقة والعالم من غموض استراتيجي، فإنّ الاحتمالات تتضمن جملة سيناريوهات متداخلة تنطوي كلها على مخاطرة عالية.
وشدد على أنه "وعلى الرغم مما يبدو من إمكانية لإنجاز تهدئة ما بالنظر إلى الموقف الأمريكي الدافع لذلك، فإنّ الواقع أكثر تعقيداً من أن يتوقف على هذا السيناريو".
التهدئة والهدنة.. المفهوم والتاريخ
وكشف التقدير، عن وجود فارق جوهري بين مفهومي التهدئة والهدنة في الفكر السياسي لحركة "حماس"، ففي حين كان مفهوم الهدنة أسبق في خطابها السياسي، إلا أن التهدئة هي التي طُبّقت بالفعل عدة مرات منذ انتفاضة الأقصى، وذلك لاقتصار مفهوم التهدئة على وقف إطلاق النار الذي قد يُصحب بتفاهمات جزئية محدودة، بينما يأتي مفهوم الهدنة تعبيراً عن تسويات أكبر وأشمل.
وذكر التقدير أن الحديث عن هدنة، تتضمن وقف العمل المسلح ضدّ الاحتلال، مقابل الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية وغزة، تكرر عدة مرات في خطاب "حماس" السياسي، منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين، كان من نسخها المبكرة تصريحات للشيخ أحمد ياسين سنة 1993، ومبادرة لمكتبها السياسي في نيسان/ أبريل 1994، وإذا كانت بعض تلك التصريحات أو المبادرات لا تتضمن لفظ "الهدنة"، فإنّ صياغاتها كلها دارت حول مضامينها، وقد كُرّس هذا المفهوم بتضمين معانيه في وثيقة "حماس" السياسية الأخيرة.
أما التهدئة فهي تعني، وفق التقدير، وقفاً متبادلاً لإطلاق النار، وقد يشمل هذا الوقف التراجع عن إجراءات عدائية مستجدة كإغلاق المعابر، وقد يُعدّ مقدمة للتمهيد لتفاهمات أوسع.
وذكر أن التهدئة طُبّقت عدة مرات، كما في سنة 2002 في أثناء انتفاضة الأقصى، وفي سنة 2005 بطلب من الرئيس عباس، واستعداداً للانتخابات التشريعية.
وأشار إلى أن التهدئة تكررت، بعد ذلك منذ الانقسام الفلسطيني، بعد كل جولة من المواجهة بين الاحتلال والمقاومة في قطاع غزة، وغالباً ما كانت التهدئة في مثل هذه الأحوال، حصيلة وساطات معلنة أو سرية، أو نتيجة تفاهمات ضمنية حينما يتوقف أحد الطرفين عن إطلاق النار فيبادله الطرف الآخر بالمثل.
ولفت التقدير الانتباه إلى أن أطول فترات التهدئة المتفق عليها، تلك التي جاءت بوساطة مصرية، واشتركت فيها جميع الفصائل الفلسطينية، بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة سنة 2014، وكان يفترض أن تمهّد لتفاهمات أوسع تفضي إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، وهو ما لم يتم.
وتحدث التقدير الاسشتراتيجي عن دمج بين المفهومين، في عدة مبادرات وتصورات، كان آخرها بعض ما طرح في مبادرة القاهرة الأخيرة، وذلك باقتراح مدة زمنية طويلة لوقف إطلاق النار تمتد لعدة سنوات.
وأضاف: "بهذا فالتهدئة تصبح مسقوفة بسقف زمني مسبق، وتأخذ من الهدنة صفة المدة الطويلة، دون أن تأخذ منها بقية سماتها وشروطها الأخرى، وفي أقصى الأحوال فإنّها ترتبط بحل خاص بقطاع غزة، وهو ما يثير السجال والتجاذبات والمخاوف في الساحة الفلسطينية، لا سيّما في ظلّ الانقسام الفلسطيني، والمساعي الأمريكية لتصفية القضية الفلسطينية على مقاس اليمين الإسرائيلي الحاكم".
تعدد المبادرات
وذكر التقدير، أن الجهود المصرية الأخيرة بشأن التهدئة، تأتي بعد عدة مبادرات دمجت ما بين الهدنة والتهدئة ولا تشترط المطالبة بتسليم سلاح المقاومة، أو الاعتراف بـ"إسرائيل"؛ من أبرزها مبادرة توني بلير، بالإضافة لمبادرات أخرى يجري الحديث عنها أخيراً، كالمبادرة القطرية، ومبادرة نيكولاي ملادينوف، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط.
وأشار التقدير إلى أن ما يميز السياق الذي جاءت فيه الجهود المصرية الأخيرة من أجل التهدئة / الهدنة أنها تتزامن مع ما عُرف لاحقاً بـ"صفقة القرن"، أو "خطة ترامب"، والتي اتضح أنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وفق الرؤية الإسرائيلية، وكذا تنامي مسيرات العودة وبوادر حرب جديدة.
دوافع الأطراف المتعددة
وتحدث التقدير عن مصالح الأطراف المختلفة من التهدئة / الهدنة، فـ "حماس" تسعى لرفع الحصار عن قطاع غزة أو تخفيفه مع الحفاظ على مكاسبها، في إطار مصالحة وطنية.
أما "إسرائيل" فتضع في حسبانها، الأرق الذي تسببه لها مسيرات العودة، واحتمالات المواجهة القائمة على حدود القطاع دون أفق واضح لما بعد هذه المواجهة، والسيولة الإقليمية، وجبهة الشمال، بالإضافة لاعتبارات أخرى تحكم التوجه الإسرائيلي؛ منها المزايدات المستمرة بين صناع السياسة في "إسرائيل"، وجنودها الأسرى لدى "حماس"، والتوظيف السياسي الأمثل لأي تهدئة بما يخدم خطتها الكلية للصراع.
بالنسبة للإدارة الأمريكية فإنّها تبدي اهتماماً واضحاً بقطاع غزة، كما في تصريحات جيسون غرينبلات مبعوث دونالد ترامب لشؤون المفاوضات الدولية، والتي قال فيها إن رئيسه يدعم جهود السيسي للتوصل إلى تهدئة في غزة، وهاجم في السياق نفسه قيادة السلطة الفلسطينية التي تُعطّل هذه المساعي، ملمّحاً إلى إمكانية استبدالها.
ورأى التقدير أنه "من الصعب تفسير سلوك النظام المصري، بعيداً عن التوجهات الأمريكية، بالإضافة لمصالحه الخاصة في حال أنجزت تفاهمات التهدئة/ الهدنة، ومنها حسابات أمنه القومي، وضمان مكانته الإقليمية، وتحقيق مصالحه السياسية والاقتصادية والأمنية في قطاع غزة، وقطع الطريق عن بعض خصومه الإقليميين كقطر وتركيا، مع تفضيله أن يجري ذلك تحت مظلّة السلطة التي تمثّل النظام الرسمي العربي.
السيناريوهات المحتملة
ووفقا للتقدير فإن مفوضات التهدئة مفتوحة على أربع سيناريوهات، أولها ويربط بن التهدئة بإنجاز المصالحة، وهو موقف حركة "فتح"، وفي حال قُدّمت المصالحة على مباحثات التهدئة، فقد تنجح السلطة في مناورتها بقطع الطريق عن حركة "حماس" في إنجاز اتفاقية تهدئة، دون أن تتحقق المصالحة على الأرض، وهذا السيناريو غير بعيد بحكم امتلاك السلطة لمفاتيح أساسية في الساحة الفلسطينية، وتحررها نسبياً من الضغوط المصرية، ولمراهنتها على دورها الأمني.
أما الخيار الثاني المطروح، وفق التقدير، فهو إنجاز اتفاقية تهدئة محدودة، تتضمن فتح المعابر وتوسيع مساحة الصيد في شواطئ غزة، وغير مسقوفة بسقف زمني، تعود إلى تفاهمات 2014، وقد تَعِد بإمكانية التفاهم على ملفات أخرى لاحقاً متعلقة برفع الحصار، أو الجنود الأسرى، وهذا السيناريو لا يتعارض مع السيناريو السابق، فقد يستند إلى تفاهمات مصالحة جديدة يُتفق عليها في القاهرة، وقد ينفصل عنها في حال تعذّرت المصالحة.
أما السيناريو الثالث الذي يطرحه التقدير، فهو اتفاقية تهدئة/ هدنة طويلة، تبدأ بخطوات متدرجة، تَعِد بممر مائي عبر قبرص، أو غير ذلك من المقترحات.
وقال التقدير: "على الرغم من التحليل الذي يرى أن هذا السيناريو هو المفضّل لدى إدارة ترامب، لكنه مستبعد، أو ينطوي على احتمالات انهيار كبيرة، لجملة أسباب، أهمها عدم وجود ضمانات لتحقيق مطالب الفلسطينيين في حدها الأقصى وهو رفع الحصار الكامل، ولأن "إسرائيل" وحلفاءها ليسوا مضطرين لدعم طرف فلسطيني يعدّونه عدواً لهم، ولأنّ الاتفاق هشّ وعرضة للانهيار لأدنى سبب، ويُضاف إلى ذلك موقف السلطة المعطّل، ورفض بعض الفصائل، كالجبهة الشعبية".
أما السيناريو الرابع، فهو العودة إلى النقطة صفر، أي تهدئة هشّة غير متفق عليها، ودون إنجاز المصالحة، وهو الأمر القائم الآن، وهذا الأمر القائم يجعل الحرب قريبة، مهما بدت غير مرغوبة من الجميع.
التوافق حول التهدئة مطلوب
ودعا التقدير القوى الفلسطينية جميعا إلى التوافق حول أي تهدئة مرتقبة، كما طالب السلطة في رام الله برفع كافة أشكال العقوبات عن قطاع غزة، لإيجاد الأجواء المناسبة لتوافق وطني بشأن التهدئة والمصالحة وإنهاء الحصار عن القطاع.
وشدد التقدير على ضرورة أن تواصل قوى المقاومة مقاومتها لمحاولات تطويع قطاع غزة، وعزله وفصله عن باقي فلسطين، وتدير فرصة تخفيف الحصار بالمزيد من الحذر من أي مؤامرات تستهدف القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني.
وأكد "أن استلام السلطة في رام الله للسلطة في القطاع يجب أن يكون على أساس اتفاق المصالحة لسنة 2011، وعلى أساس الشراكة الوطنية، ودون مساس بسلاح المقاومة".
وترعى القاهرة منذ عدة أسابيع جهوداً لإبرام اتفاقية تهدئة بين المقاومة في قطاع غزة والاحتلال الإسرائيلي، بالاستناد إلى المصالحة بين حركتي "حماس" و"فتح"، أو بدون المصالحة في حال تعذّرها. وشهدت الساحة السياسية تحركات واضحة، بهذا الخصوص، للأطراف المعنية كلها محلية وإقليمية ودولية، لكن هذه الجهود عادت وتوقفت نتيجة اصطدامها بموقف حركة "فتح" الذي اشترط المصالحة أولا والتمكين للحكومة في غزة أولا قبل أي تهدئة مع الاحتلال.
يذكر أن "مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات"، هو مؤسسة دراسات واستشارات مستقلة، تأسس في بيروت، في منتصف عام 2004، يُعنى بالدراسات الاستراتيجية واستشراف المستقبل، ويُغطي مجالُ عملِهِ العالمين العربي والإسلامي، ويعطي اهتماماً خاصاً بالقضية الفلسطينية، وكل ما يرتبط بذلك من أوضاع عربية وإسلامية ودولية.