تقع
إدلب في شمال
سوريا على الحدود التركية، وهذا فقط منذ مئة عام، فقد خسرتها الدولة العثمانية أثناء الحرب، مع الكثير من الأراضي في المناطق العربية. ويبدو أن تشوهات لحظة البداية ستطاردنا حيث سرنا، فقد رسمت الحدود طبقا لمصالح مر عليها مئة عام، ورسمت الحدود - حتى لو افترضنا ضرورة ذلك - دون أن يدرك ساكنو الأراضي أي شيء عما يحدث، فقط عليهم الالتزام بما أملي عليهم تحت قصف المدافع.
وقد صارت نزاعات كبيرة على كل المناطق الحدودية بين كل الأنظمة العربية، ولا يمكننا إدراك السبب الحقيقي للنزاع الحدودي في ظل النشأة المشوهة لحساب الآخر، إلا إذا كان سبب النزاع إرادة ذلك الآخر، أو للمكايدة الوطنية بين الأنظمة لرفع النزعات "الوطنية" بين الشعوب؛ لتمكين سلطة الاستبداد. فعادة لا يمكن للوكلاء التصرف في الأمور الهامة دون العودة للأصل، وستظل الصراعات الحدودية موجودة ما لم نحل أزمة تشوهات النشأة حلا حاسما.
ولو أخذنا إدلب نموذجا؛ ربما يمكننا توضيح الصورة في هذه المساحة المحدودة من الكلمات، فقد كانت إدلب جزءا من الأراضي العثمانية حتى 1918، ثم فقدها العثمانيون مع أجزاء واسعة من جنوب
تركيا، والتي تتمير بقدرة جزء كبير من سكانها على التحدث بالعربية. وأعلنت المملكة السورية على أراضي سوريا الحالية مع جزء كبير من جنوب تركيا، ثم استعادت تركيا جزءا منطقها الجنوبية برعاية فرنسية، وبقيت إدلب ضمن المملكة السورية التي تعرضت للاندماج والانشقاق مرات متتالية حتى وصلت للوضع الحالي.
هذه التفاصيل السريعة تشير إلى أن الخلل كبير في مناطق الحدود السورية التركية، وهي فقط نموذج للتشوه في كل المناطق الحدودية بين الدول العربية ودول الشرق الأوسط كما تسمى، ليس فقط ناتجا عن صراع مصالح أو قوى إقليمية، بقدر كونه خللا بنيويا نتج منذ مئة عام، وقد عاش طويلا بأمراضه وربما لم يعد قادرا على الاستمرار.
وعندما نستعرض كل الصراعات الحدودية بالمنطقة، نجد أن أي صراع لا يمكن أن يتجاوز المصالح الغربية، ولغياب الأنظمة المنتمية لشعوبها، سواء كانت عميلة أم مستبدة منتمية لهويتها وسواء كانت عروبية أم إسلامية، أصبح كل حل (كل حل) يخدم فقط مصلحة المالك الأصلي والحصري منذ مئة عام، وأي محاولة للتجاوز يتم القضاء عليها بلا رحمة أو قواعد.
إن كل ما نراه من حدود سياسية، حتى خارج المنطقة العربية البائسة، هو توزيع للنفوذ والثروة، وبما أن النفوذ والثروة في بلادنا ليسا لأهلها، فهما في الحقيقة عديما القيمة لنا حتى في حال قبولنا بهذا النموذج كنموذج وحيد ونهائي للسلطة كما أن أي تغيير يأتي دون أي تحفظ من المالك الحصري؛ يشير إلى أن هذا التغيير برعايته (تيران وصنافير وانفصال جنوب السودان مثالين). وعلى العكس، أي تغيير ينتج عنه هياج من المالك يعني أنه ضد إرادته (درع الفرات مثلا)، وربما تكون صورة الهياج بشكل مسلح أو غيره طبقا للظروف، ولكن تبقى الحقيقة أنه يهاجم بشراسة بوسائله المتعددة كل محاولة لإعادة التشكيل خارج رعايته الحصرية.
نعود لإدلب ومأساتها، فقد تركزت بها تلك المئة عام من الفوضى الآن، وسط صراع محتمل يضع الجميع في مأزق. فالكل يحشد قواته من أجل معركة إدلب، وأعتقد أن الكل لا يعلم إلى أين ستسير الأمور في حال اندلاع المعركة، فحجم الخلل الكبير الآن تجاوز مجرد الصراع على السيادة على قطعة أرض، فقد تراكمت التشوهات ووصلت لنقطة الحد الأقصى، فهناك تشوه النشأة، وتشوه السلطة، وانهيار العلاقة بين الشعوب والأنظمة بغير عودة، وتغير المصالح وأوزان القوى، وظهور قوى إقليمية صاعدة تسعى لفرض وجودها على مساحات فراغ القوة الناشئة في المنطقة.
إن كل هذا الخلل المتراكم أنتج معضلة إدلب، فلا يظن أحد أن معضلة حلب وريف دمشق قد مرت، ولكن كل المعضلات تراكمت في إدلب، وأصبحت إدلب حاملة المعضلات كلها عبر تلك المئة عام في كل المنطقة.
إن هتافات الجزائريين في ملعب كرة القدم لصدام حسين، المستبد غير الخائن، واللعنات المتتالية لكل حكام العرب المستبدين الخونة، والصراع الطائفي المصنوع، والمصالح المتضاربة للقوى الغربية وأمن تركيا الوجودي لحدودها الجنوبية، والانهيار المتوقع للنظام الخليجي، ونضال أبطال العرب في سوريا وغيرها.. تجمعت كلها في إدلب، وننتظر هل ستحل تلك المعضلة، ولو بشكل مرحلي تكتيكي، قبل إطلاق النار الحقيقي وليس التمهيدي؛ أم سندخل بوابة الجحيم من إدلب أم سينجح الخونة في نقل كرة اللهب وكل المعضلات إلى جنوب تركيا؟