كتاب عربي 21

الشيخ كشك.. قصة حوار (4)

سليم عزوز
1300x600
1300x600
في كتابه "النبي والفرعون"، قال الكاتب الفرنسي "جيليز كيبل" عنه: "في السنوات الأخيرة من حكم السادات كان من المستحيل السير دون سماع صوته الجهوري.. فإذا ارتقيت إحدى سيارات الأجرة الجماعية، فستجد السائق يستمع لإحدى خطب الشيخ كشك على جهاز الكاسيت الموجود بالسيارة، وإذا توقفت لتناول عصير الفاكهة على ناصية أحد الشوارع، وبينما ترتشف الشفتان عصير القصب أو المانجو، تنهمر على الأذنين عبارات آخر الخطب التي ألقاها الشيخ؛ تنبعث من جهاز التسجيل القديم الذي يمتلكه البائع بين وصلتين؛ الأولى لكوكب الشرق أم كلثوم، والثانية أغنية مشهورة لأحد المطربين الشعبيين، وإذا رجعت إلى منزلك ستسمع صوتا منبعثا من الشارع يطرق أذنيك بلغة القرآن الفصحى.. فالبواب الذي يجلس على مقعده ليلا ونهارا يستمع لكشك.. إنهم يستمعون لكشك في القاهرة.. وفي الدار البيضاء.. وفي حي المغاربة في مرسيليا، حتى أن إحدى المجلات ذات التمويل السعودي وصفته بأنه نجم الدعوة الإسلامية.. وقد كان له بالطبع مقلدوه، ولكن لم يتوافر لأحدهم حباله الصوتية التي لا تضاهى.. وروحه الجسور في نقده للأنظمة المستبدة وللديكتاتورية العسكرية ولمعاهدة السلام مع إسرائيل ولتواطؤ الأزهر.. أي إن كشك أعلى أصوات حركة الإسلاميين كان معارضا".

مسجد الملك سابقاً

لم أستمع للشيخ عبد الحميد خطيباً في مسجده بحدائق القبة، وهو مسجد كان يطلق عليه اسم "مسجد الملك"، فلما قامت حركة الضباط الأحرار، التي عزلت الملك، أطلقوا عليه مسجد "عين الحياة"، والذي يقع في شارع "مصر والسودان" الشهير في هذه المنطقة. ولم يكن هو المسجد الأول الذي عُين فيه بعد تخرجه في كلية أصول الدين، بجامعة القاهرة، وكان الأول على دفعته، وقد كرمه الرئيس جمال عبد الناصر ضمن أوائل الخريجين في الجامعات المصرية في "عيد العلم". وآثر أن يعمل إماما بوزارة الأوقاف، وفضل هذه الوظيفة على وظيفة التدريس.

فعندما جئت إلى القاهرة، كان هو ممنوعاً من الخطابة بالمساجد، وإن كان يُسمح له بالخطابة في سرادقات العزاء التي يحضرها. ومن خطبه الشهيرة، خطبته في عزاء مرشد عام جماعة الإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني، وخطبته في عزاء الشيخ صلاح أبو إسماعيل!

صغيراً كنت أستمع لصوته منطلقاً من بعض البيوت، أو من سيارات الأجرة، وأحياناً من المقاهي، وأول خطبة أستمع لها مكتملة هي التي تحمل رقم (410). وقد اشتريت شريط الكاسيت من أحد المكتبات عقب قرار اعتقاله في أيلول/ سبتمبر 1981، وكانت هي الخطبة الوحيدة التي عثرت عليها في المكتبة وقتئذ!

كان يتحدث في خطبته عن الحرب العراقية الإيرانية، وكان أسفاً لأن الأمة في غفلة، بينما تتدخل "كوبا الشيوعية" و"الهند التي تعبد البقر" لوقف هذه الحرب التي قتل فيها مئات الآلاف، وشُرد بسببها مليون ونصف المليون إنسان!

لا أعرف تاريخ إلقاء هذه الخطبة الحماسية، ككل خطبه، وإن بدا لي فيها فيها أكثر حماسة وأشد نفيرا، وهو يتحدث عن مآسي هذه الحرب. ورغم أنه كان ميالاً لصالح الثورة الإسلامية في إيران، إلا أنه بدا فيها على الحياد، فما كان يشغله هو استمرار الحرب العراقية- الإيرانية، واستمرار نزيفها الذي وصفه بـ"النزيف الدموي الرهيب"!

تسلسل خُطبه

خطب الشيخ تأتي مسلسلة، وهذا التسلسل مرتبط بأنه يقول من فوق المنبر رقم كل خطبة، ولا نعرف ما إذا كان التسلسل مرتبط بخطبه في مسجد "عين الحياة"، أم منذ أن عمل خطيباً بوزارة الأوقاف، أم أن البداية كانت ببداية التسجيل له، ولا نعرف متى بدأ، لكن من المعلوم أن اسمه ارتبط بالكاسيت، فكانت خطبه تصل إلى جميع محافظات مصر، عقب إلقائها، بل وتصل إلى كثير من البلاد العربية، ولا تزال أشرطة الكاسيت التي تحمل اسمه تباع في كثير من الدول العربية.. يقال إنها كانت ممنوعة في العراق، لكني استمعت لصوته منبعثاً من أحد محلات بيع الكاسيت في تونس بالمدنية العتيقة!

وارتباط اسمه بظاهرة الكاسيت، جعله خطيباً عاماً، في حين حوصر الآخرين في محافظاتهم والمحافظات القريبة منها، فاستمروا شيوخاً محليين، ربما لم يخرجوا من هذه المحلية إلا بعد قرارات التحفظ في أيلول/ سبتمبر سنة 1981!

لقد كان الشيخ أحمد المحلاوي، معروفاً في محافظة الإسكندرية وعدداً من المحافظات المجاورة، ومعروفا لدى النخبة السياسية والدينية، لكن اسمه لم يكن ذائعا خارج هذه المحافظات أو خارج هذه النخب، وأعتقد أن الغالبية لم تكن تعرفه والرئيس السادات يقول في خطابه الأخير: "أهو مرمي في السجن زي الكلب"!

ولم يكن داعية مثل الشيخ يوسف البدري معروفاً خارج منطقة "المعادي" وضواحيها، وخارج حدود القاهرة، ربما كان حضوره الطاغي في هذه المنطقة فقط.

ولا أعرف سبباً في عدم الاهتمام بالتسجيل للدعاة الآخرين، لا سيما وأن من كانوا يقومون على عملية التسجيل والترويج لم يكونوا مرتبطين تجارياً بالشيخ كشك، فهل كانوا يدركون أن أحداً لا يضاهيه في هذا الجانب، ويرجع الأمر إلى أنه خطيب مميز، وغير مسبوق في طريقة الإلقاء والتفاعل مع الجماهير؟!

الشيخ خطيباً

إن حباله الصوتية لا يملك داعية آخر قوتها واتساعها ورحابتها. والبعض قاموا بتقليده، لكن الأصل ظل هو الأبرز والأقوى، ولا يُعرف أن داعية قبله امتلك هذه الطريقة في الخطابة والاندماج مع المصلين!

إنه في مقدمة الخطبة، يظل يسأل بصوته الجهوري: من الواحد؟.. ليردوا في نفس واحد: الله. من الماجد؟ الله. من الفتاح؟: الله. ثم يظل يردد ما تيسر له من أسماء الله الحسني، حتى إذا بلغ الحماس بهم مبلغ التعب، يعود ليسألهم: من الواحد؟ ليكون جوابهم: الله. فيكررها مرة وأخرى، وصوته وأصواتهم تشق عنان السماء؟ قبل أن يسألهم بأن يوحدوا الواحد. فيكونوا في حالة أقرب إلى الغياب عن الوعي، فتسمع صريخا هنا، وهتافا هناك. إنها حالة من التفاعل على نحو يبدو، وكأنه صعد بهم إلى السماوات العُلى.

وفي مقام تال، يخاطب ابن آدم بقوله: إذا ضاقت عليك الدنيا فقل: يا الله. إذا دخل عليك ملك الموت فقل: يا الله. إذا ظُلمت فقل: يا الله. وهكذا.. وهم يردون في كل مرة: يا الله. إلى أن يبلغ بهم نفس المبلغ، ويرتقي به إلى مراتب الوجد، وقوة الحضور، ولحظة الهيام، بحسب المفهوم الصوفي. فمن من الخطباء سبقه في هذا؟!

كان الكاسيت الواحد، يحمل خطبة ودرساً، وإذا كانت الخطبة حماسية ملتهبة وبالفصحى، فإن الدرس يستخدم فيه العامية المصرية، وتبدو فيه روح الشيخ، فيداعب ويطلق النكات، ويقدم ملحمة تختلط فيه الموعظة بالفكاهة، ومن لم يصلوا خلفه، ربما كانوا يعتقدوا أن الدرس هو بعد صلاة الجمعة، وهو ما كنت أعتقده قبل أن أعلم أنه كان يلقي درسين كل أسبوع، واحدا يوم الأحد والثاني يوم الثلاثاء، والمعنى أن الكاسيت كان يُسقط درساً من هذه الدروس الأسبوعية!

كشك فون

وقد كان تسجيل خطبه بواسطة "الكاسيت" سبباً في أن يطلق عليه الكاتب "أنيس منصور": "كشك فون"، وهو يكتب عن هذه الظاهرة التي انتشرت عبر الكاسيت، ورد عليه هو بوصفه له "إبليس مسطول". وتساءل منصور إن كان يدفع الضرائب على آلاف أشرطة الكاسيت التي توزع كل أسبوع، لتتحرك مصلحة الضرائب وتستدعي الشيخ، الذي قال إنه عومل باحترام بالغ، وأخبر المسؤولين بالمصلحة أنه لا علاقة له بمن يسجلون.. فمن يسجل يسجل، وأنه يجد حرمة في أن يتقاضى نصيبه من المبيعات؛ لأنه خطيب معين بوزارة الأوقاف، ويتقاضى راتبه على وظيفته، ولعلهم ساعتها شعروا بالدهشة لهذا الرجل، الذي لم تكن الدنيا كل همه أو مبلغ علمه. وبالتأكيد، فإنه لو قرر تقاضي نسبة من المبيعات، لأمكنه أن يكون أحد أثرياء الدعوة!

بيد أن المال لم يكن يوماً مطروحاً على جدول أعماله، فرفض السفر للخارج، وكان يصنف على أنه من الدعاة الفقراء. ذات يوم كان أحد الخليجيين (عرفنا ذلك من لباسه) في منزل الشيخ صلاح أبو إسماعيل، وقد اصطحب معه حقيبة علمنا أنها زاخرة بأوراق البنكنوت، لكن الشيخ رفض استلامها، وشكر الرجل، وهو يقول له: أنا من الأثرياء. كان الحوار بينهما هامساً، لكن رد الشيخ صلاح كان بصوت عال، ويخبره إن كان يبحث عن داعية فقير، فالشيخ كشك من الفقراء. ومن باب الفضول تتبعنا حركة سير الرجل وتبرعه، وعرفنا أن الشيخ كشك اعتذر أيضاً.

بدا الشيخ كشك غاضباً و"أنيس منصور" يصفه بـ"كشك فون"، وفي غضبه، تحدث بلغة ربما لم يكن سيوافق عليها، بعيداً عن حالة الغضب هذه!

قال له إن الناس تعلم من أنا ومن أنت، تعرف أصلي وأصلك. فمن أنت؟ "حتة صحفي لا راح ولا جه".

كانت قسوة في الرد تبررها طريقة "أنيس منصور" في السخرية والاستهزاء من داعية بلغت شهرته الآفاق، وبعيداً عن الإعلام التقليدي وإعلام الدولة!

ولم تكن هذه هي معركته الوحيدة مع الكتاب.

رحم الله الشيخ كشك.
التعليقات (0)

خبر عاجل