من أكثر المسائل التي تثير جدلا في الوسط الشرعي، وفي المجتمعات المسلمة، قضيّة لباس
المرأة. والنّاس فيها بينَ مبالغٍ في التّشديد والتّضييق وبين مسرفٍ في التّمييع والتّضييع.
ومن أكثر ما يحتاج إلى التّفكيكِ في قضيّة لباس المرأةِ هو تداخلُ العرف والشّرع. وفي الأسئلة الثلاثة الآتية نحاول تبسيط الصّورة في العلاقة بين العرف والشّرع في لباس المرأة.
هل فرض الإسلام شكلا أو "موديلا" معيّنا للباس المرأة؟
لم يفرض الإسلام شكلا معينا أو قالبا موحّدا على جميع النساء المسلمات الانصياع له على امتداد البيئات والأزمنة. لكنّ الإسلام وضع ضوابط على المرأة أن تلتزم بها، وبعد ذلك لها أن تختار
اللباس الذي تشاء من حيث الشكل والزّي و"الموديل".
وأهمُّ هذه الشروط المتفق عليها هي:
أولا: أن يكون اللّباس ساترا للعورة، أي يغطّي سائر بدنها عدا الوجه والكفين، أما كون الوجه والكفّين من العورة أم لا فهي مسألة فيها خلاف كبيرٌ وفيها سعةٌ كبيرةٌ، وللمرأة أن تختار هي ما تريده وتراه مناسبا لها.
ثانيا: ألا يشفّ؛ فلا يجوز أن يكون لباس المرأة والرّجل على حدٍّ سواء شفّافا، بحيث يمكن رؤية لون البشرة من خلاله.
ثالثا: ألاّ يصف؛ أي ألاّ يكون ضيّقا بحيث يُجسّمُ أعضاء جسدها بطريقة تغري النّاظر إليها.
وهذه الشّروط يجب توافرُها في لباسِ المرأة والرّجلِ على حدٍّ سواء، وعند تحقيق هذه الشّروط فإنّه يحقّ للمرأة أن تلبس الزيّ الذي تشاء والقماش الذي تحبّ والموديل الذي ترغب به والشكل الذي تقرّره، ما دام منسجما مع هذه الضّوابط ومحقّقا لها
هل فرض الإسلام لونا معينا للباس المرأة؟
على الإطلاق، لم يفرض الإسلام لونا معينا للباس المرأة، ولم يحثّ على لون أكثر من غيره؛ فلم يطالب الإسلام المرأة بلباس اللّون الأسود أكثر من غيره، ولم يفضّل الألوان الغامقة على الألوان الفاتحة في لباس المرأة.
والأصل في ألوان لباس المرأة ان تكون منسجمة مع العرف العام للألوان في البلد الذي تقيم فيه المرأة، وألا تتمايز عن النّساء بشكلٍ يلفتُ الأنظار إليها أو يجعلها مختلفة عن العرف العام.
ففي كثيرٍ من دول أفريقيا، على سبيل المثال، يتعارف النّاس رجالا ونساء على ارتداء الألوان الفاقعة واللّباس المزكرش، وحدثَ أن ذهب بعض الشباب الدّعاة إلى بعض البلاد الأفريقيّة فأنكروا على النّساء هناك ارتداء اللّباس الملوّن لأنّه يلفتُ الأنظار، وطالبوهنّ بارتداء العباءة السوداء والحجاب الأسود؛ فغدت اللّواتي ارتدين هذا اللون الأسود هنّ اللواتي يلفتن الأنظار وتراقبهنّ العيون وتتبّعهنّ الأبصار دون غيرهنّ من النساء، بعد أن خرجن عن النّسق العامّ للمجتمع!!
فليست هناك مشكلةٌ في اختيار اللونـ سواء أكان غامقا أم فاتحا أم فاقعا؛ المهمّ ألا يكون هذا اللون غريبا عن العرف العام الذي تعارفه عموم النّاس في هذا المجتمع.
وهذا الثّوب الذي يتمايز به الإنسان عن المجتمع يندرج تحت مفهوم ثوب الشّهرة الذي نهى عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقوله: "مَن لبس لباس شهرةٍ في الدّنيا ألبَسه الله ثوب مذلّةٍ يوم القيامة؛ ثمّ ألهب فيه نارا".
وثوب الشّهرة هو كلّ لباسٍ يتمايزُ به الإنسانُ رجلا أو امرأة عن عامة الناس في مجتمعه بحيث يشار إليه بالبنان ويلفتُ الأنظار، سواء كان ذلك في لونه أو في شكله أو في نوعه أو في نفاسته أو خسّته.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتكره الشّهرة من الثّياب، وهو المرتفعُ الخارجُ عن العادة، والمنخفضُ الخارج عن العادة، فإنّ السلف كانوا يكرهون الشّهرتين، المرتفع والمنخفض".
كيفَ يكون التبرُّجُ إذن؟!
كلمة التبرُّج جاءت من البرج لبروزه وعلوّه وارتفاعه، فهو أن تُبرز المرأة ما يغري الرّجال ويلفت أنظارهم كما لو كانت مثل البرج في بروزه.
ويمكن أن يكون التبرّج بالفعل كأن تمشي المرأة بطريقة تلفت الأنظار، ولو حققّت كلّ شروط اللّباس وضوابطه فهي متبرّجة.
ويمكن أن يكون بأن تكشف المرأة أجزاء من جسدها كأن تكشف شعرها كاملا أو جزءا منه مثلا، فهذا من التبرّج.
وكذلك يمكن أن تلبس لباسا ساترا غير أنّها تضع بدل
الحجاب القبعة أو التوربان الذي تكشفُ معه أجزاء من عنقها وأذنيها، فهذا من التبرّج.
أو أن تلبس اللّباس الضيّق الذي يجسّد تفاصيل جسدها بطريقة لافتة؛ كأن ترتدي الحجاب غير أنّها ترتدي معه البنطال الضيّق مع الكنزة الضيّقة أو القصيرة التي تتيح بروز تجسيد البنطال لتفاصيل الجسد؛ فهذا من التبرّج أيضا، وكلّ هذا ممّا قال الله تعالى فيه "وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى?".
فالإسلام يفتح الباب واسعا للمرأة في قضيّة اللباس، لا كما يحاول البعض تصوير المشهد وشيطنته من خلال تصوير أنّ المرأة تعاني من اضطهاد فقهيّ في ما يتعلّق بلباسها؛ ويترك للمرأة أن تختار ما تريد اللّباس من حيث شكله وموديله ولونه المنسجم مع المشهد العرفيّ العامّ، بعد تحقيق الضّوابط التي تحفظ القيم العامّة في المجتمع في تكامل حقيقيّ بين تمتّع الفرديّة بحريّته الشّخصيّة التّامّة المنضبطة بعدم الإضرار بالصّالح العامّ في المجتمع؛ تماما كالرّجل في وجوب التزامه بالضّوابط الشّرعيّة، سواء بسواء.