ناقشنا ما زعمه القائلون بأن الرجم حد، أن الخلفاء الراشدين رجموا، وسقنا النصوص التي ذكرت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ونكمل في مقالنا اليوم، بقية الخلفاء الراشدين: عثمان وعلي رضي الله عنهما، وهل ثبت عنهما الرجم أم لا؟
عثمان بن عفان والرجم:
وقد بحثت في كتب السنة والمصنفات والمسانيد بناء على من ذكروا أن الخلفاء جميعا رجموا، علِّي أجد نصا عن عثمان بن عفان، يكون قد أقام فيه حد الرجم، فلم أجد إلا نصا واحدا يحكي حادثة واحدة، ونصها؛ "أن عثمان أُتيَ بامرأة وضعت لستة أشهر، فأمر عثمان برجمها، فقال له ابن عباس: إن خاصمتكم بكتاب الله فخصمتكم، قال الله عز وجل: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} الأحقاف: 15، فالحمل ستة أشهر، والرضاع سنتان، قال: فدرأ عنها، فأمر عثمان بها أن تردّ فوجدت قد رجمت"(1) .
ولكن هذه الرواية إسنادها مقطوع، وهي من بلاغات مالك. وهناك رواية أخرى أصح منها، وفيها: "فردها عثمان وخلى سبيلها"(2) ، وفي رواية: "فدرأ عنها" أي الحد(3) .
علي بن أبي طالب والرجم:
وقد ورد الرجم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ فممّا روي عنه الرجم والجلد على وجه العموم: ما رواه الشعبي؛ "أن عليّا جلد ورجم"(4) ، وما رواه ابن سيرين قال: "كان عمر يرجم ويجلد، وكان علي يرجم ويجلد"(5) .
علي بن أبي طالب ورجم شراحة:
والحادثة الوحيدة التي رويت في الرجم عن علي رضي الله عنه هي حادثة رجم شراحة الهمدانية؛ وهي؛ أن عليّا ضرب شراحة يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال، جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد وردت بعدة روايات وطرق كلها عن الشعبي، بلغت تسع روايات، أورد الشيخ الألباني منها سبعا؛ وقد حكم الألباني بصحتها.
وقفات مع سند الروايات:
ولنا وقفة مع سند الروايات التي ذكرت عن علي رضي الله عنه، فهناك روايتان: الأولى عن الشعبي، والثانية عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
أما التي عن الشعبي، فهناك خلاف شديد بين علماء الجرح والتعديل في سماع الشعبي وروايته عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وإن مال الشيخ الألباني لترجيح سماعه منه، كما رأينا فيما نقلناه عنه من (إرواء الغليل) لتخريجه للآثار التي رواه الشعبي عن علي. فقد طعن الإمام الحازمي في إسناد الروايات التي رواها الشعبي، بأنه لم يسمع من علي(6) ؛ وقال الحاكم: لم يسمع الشعبي من علي، إنما رآه بعينه(7)؛ وقال الماوردي: حديث علي في جلد شراحة ورجمها: مرسل، لأن راويه الشعبي ولم يلقَه(8).
بحثت في كتب السنة والمصنفات والمسانيد بناء على من ذكروا أن الخلفاء جميعاً رجموا، علِّي أجد نصا عن عثمان بن عفان، يكون قد أقام فيه حد الرجم، فلم أجد إلا نصا واحدا يحكي حادثة واحدة،
وذكر الدارقطني طريقين من الطرق التي ذكرناها، إحداهما فيها بين الشعبي وعلي والد الشعبي، والثانية فيما بينهما عبد الرحمن بن أبي ليلى، ووهَّم الروايتين جميعا، وصوَّب رواية الشعبي عن علي، وقال: سمع الشعبي من علي حرفا، ما سمع غير هذا(9). وقال ابن عبد البر: حديث علي في قصة شراحة ليس بالقوي(10) .
فهنا كلام كثير في رواية الشعبي عن علي رضي الله عنه، من حيث الروايات التي رويت عنه في رجم علي شراحة الهمدانية.
وقد حاول بعض الفقهاء أن يعلل هذا الاختلاف في جلد شراحة ورجمها، وفي روايات أنه جلدها في يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، فقالوا: (جلدها لأنه حسبها بكرا، ثم علم أنها ثيب فرجمها، ألا تراه أنه جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، ولولا ذلك لجمع بينهما في يوم واحد. والثابت: أنها زنت بكرا فجلدها، ثم زنت ثيبا فرجمها، ويحتمل أن يكون رجمها في جمعة لا تلي الخميس أو تليه)(11) .
روايات الفقه الشيعي لرجم علي:
وقد وردت رواية رجم شراحة في كتب الفقه الشيعي، ومعظم روايات أهل السنة عن رجم علي رويت برواياتها نفسها في كتب الشيعة، بخاصة رجم شراحة؛ إلا أن مرويات الشيعة ذكرت أمرا جديدا عن رجم شراحة، وهو: عن أبي جعفر قال: (قضى علي في امرأة زنت فحبلت فقتلت ولدها سرّا، فأمر بها فجلدها مائة جلدة، ثم رجمت، وكانت أول من رجمها)(12) .
فهنا بينت هذه الرواية أن المرأة جمعت جريمة أخرى إلى جريمة الزنى، وهي أنها حملت من الزنى، ثم قتلت وليدها سرا، ولا ندري هل أقام عليها علي الحد، وهو الجلد، ثم عزرها بالرجم قتلا، بخاصة أن هناك رواية بينت أنه صرعها من أول حجر، وإذا علمنا أوصاف الفقهاء للحجر، وأنه قدر حبة الفول، أو البازلاء، فهل حجرٌ بهذا الحجم يقتل امرأة أو يصرعها لأول ضربة؟! أم أن عليا هنا انفعل بحكم الحادثة فضربها بحجر كبير أودى بحياتها من أول ضربة؟!
نظرة في متن الآثار:
ولنا في متن الآثار نظرة ووقفة؛ ففي الروايات التي عن الشعبي، في الرواية الخامسة، ورد فيها أن عليّا رضي الله عنه حبس شراحة الهمدانية حتى تضع حملها، وهو يتعارض مع الروايات الأخرى التي تفيد بأنه عهد بها إلى وليها، وهنا تعارض بين الروايات، كما أنه يتعارض مع ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروايات التي ذكرت رجم الغامدية، التي كانت حاملا أيضا، فلم يحبسها، ولم يكن من هديه الحبس، بل المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يقوم مقامه من الخلفاء يترك الفرصة للمعترف بأن يعود، فإن تاب ولم يعد للحاكم فبها ونعمت، وإن جاء كان له موقف آخر معه.
أيضا، نرى تعارضا في أن مولاها هو الذي أتى بها، بينما في روايات أخرى أنها جاءت بنفسها، وإن حاول بعض العلماء الجمع بأن مولاها جاء بها، فأتت عليا رضي الله عنه معترفة، طائعة غير مكرهة(13) .
أما ما ورد في الطرق الثانية لرجم علي شراحة، فنلاحظ في الرواية الأولى، التي عن ابن عبد الله بن مسعود، أنه قال: "ما رأيت رجلا قط أشد رمية من علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ أتي بامرأة من همدان يقال لها شراحة، فجلدها مائة، ثم أمر برجمها، فأخذ آجرة فرماها بها، فما أخطأ أصل أذنها، فصرعها، فرجمها الناس حتى قتلوها". ولنا هنا وقفة، فقد بيّن أن عليّا ضربها ضربة بيده، ما أخطأتها، بل كان فيها مصرعها، أي إنها ماتت من ضربة علي.
لكن حد المرأة هنا الرجم أي الضرب بالحجارة حتى الموت، ولو كان المعنى هنا أن صرعت طرحت أرضا، فمعنى ذلك: الإغماء، وربما التكشف، وهو غير مطلوب في عقاب المرأة، كما أن الحفر للمرأة مطلوب في الرجم، فكيف يكون الحفر مع الطرح أرضا، والصرع في القرآن معظمه القتل، كقوله تعالى: (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية).
ولا شك أن ضربته كانت الأولى، لأن بقية الروايات تبين فقه علي رضي الله عنه في اعتراف الزاني المحصن، بأن أول من يرجمه الإمام، ثم الناس، فإذا كانت الهمدانية قد صُرعت من ضربة علي، فلماذا يستمر الناس في الرجم، وهو أمر لا يجوز شرعا؟!!
ويحتمل أن يكون معنى الصرع هنا: الطرح أرضا، وهذا يعني: أنها قد أصابها إغماء، أو سقطت أرضا، وهو ما يفيد التكشف آنذاك، وهو ما ليس مطلوبا ممن يقام عليها الحد، بل إن المرأة يحفر لها عند القائلين بالرجم، وذلك لسترها عند الحد، وقد ذهبنا في نقاشنا هنا إلى أن الصرع القتل، لدلالة المفردة قرآنيا على ذلك، كما في قوله تعالى: (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية) الحاقة: 7.
ثم بينت الآثار هنا في بعض رواياتها، أن مولى شراحة جاء بها إلى علي لإقامة الحد عليها، فهل كانت أمة متزوجة بعبد، أم كانت أمة متزوجة بحرّ؟ وما حكم الأمة التي تزني؟
نظرة في فقه الآثار:
ما ورد عن رجم علي لشراحة، هو الحالة الوحيدة التي رويت عنه، فهل يؤخذ من ذلك وجوب الرجم، أو أن الرجم ليس حدا، بل كان تعزيرا قام به إمام؟ هي مسألة تحتمل الوجهين، فقد ورد عن علي رضي الله عنه تعزيرات فيها ما فيها من الشدة، بل تخالف الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نهى عنه، بدليل إنكار بعض الصحابة لبعض هذه التعزيرات؛ كتحريق أبي بكر وعلي لحالات من باب العقوبة، وهو مخالف للسنة النبوية.
وهذا ما يدعونا لمناقشة حجة ما يقوم به الراشدون، هل ما يفعله الخلفاء الراشدون هو حجة تشريعية لازمة، أم لا؟ سواء انفرد كل واحد منهم بالفعل، أم اتفق الأربعة عليه؟
الهوامش:
1 ـ رواه البيهقي (15643)، والموطأ (1763).
2 ـ رواه سعيد بن منصور عن أبي معاوية عن الأعمش (2075).
3 ـ رواه عبد الرزاق في المصنف (13447)، وصحح إسناده محققه، انظر: المصنف (7/352).
4 ـ رواه ابن أبي شيبة (29385)، وقال الألباني إسناده صحيح. إرواء الغليل (8/5).
5 ـ رواه ابن أبي شيبة (29386)، وقال الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل (8/5).
6 ـ انظر: الاعتبار للإمام الحازمي، ص 201.
7 ـ انظر: معرفة علوم الحديث للحاكم، ص 111.
8 ـ انظر: الحاوي الكبير للماوردي (13/192) بتصرف.
9 ـ انظر: العلل للدارقطني (4/97،96).
10 ـ انظر: التمهيد لابن عبد البر (9/80).
11 ـ انظر: الحاوي الكبير للماوردي (13/192).
12 ـ انظر: تفصيل وسائل الشيعة للحر العاملي (28/65)، وجواهر الكلام شرح شرائع الإسلام للنجفي (41/188).
13 ـ انظر: الفتح الرباني (16/95).
[email protected]