هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تناولنا في المقالين السابقين ما ورد عن الخلفاء الراشدين الأربعة حول الرجم، سواء من نصوص قولية، أو من أحداث قيل فيها بأنهم رجموا، ومدى صحة هذه النصوص، وهنا مسألة مهمة ينبغي نقاشها، وهي: ما مدى حجية ما يرد عن الخلفاء الراشدين من أقوال وأفعال؟ فالأمر هنا يناقش من زاويتين أصوليتين، وهما: ما مدى حجية ما يرد عن الخلفاء الراشدين منفردين، فمثلاً ما يرد عن أبي بكر الصديق أو عمر، أو علي، أو عثمان، رضي الله عنهم أجمعين، منفردين، فما مدى حجية قولهم، أو فعلهم؟ وما مدى حجية فعلهم إن اتفقوا جميعاً على فعل واحد، أو قول واحد؟ هل فعلهم حجة ملزمة أم لا؟
الأحاديث الواردة في اتباع الراشدين:
وقد ورد في ذلك حديث عن عرباض بن سارية، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة، ذرفت لها الأعين، ووجلت منها القلوب، قلنا، أو قالوا: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فأوصنا. قال: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة"(1) .
رأي الأصوليين في هذه النصوص النبوية:
لقد تأمل الأصوليون في هذه النصوص ووجهوها، وكان لهم رأي في معناها وفقهها؛ يقول الإمام الجويني تعقيباً على من يتمسك بحجية قول الصحابي، ومنهم الخلفاء الراشدون، في من استدل بحديث: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، يقول: (إنما عنى بالسنة والأمر بالاتباع فيها لزوم الطاعة للخلفاء، والتحضيض على الانقياد والطاعة بأقصى الجهد.
وإن زعموا أن الأمر بالاقتداء عام، فما ذكروه ساقط من وجهين:
أحدهما: أنّا لا نقول بالعموم.
والثاني: أن الحديث غير منطوٍ على صيغة عموم، فإن السنة ليس فيها قضية عموم، بل هي لفظة محتملة.
والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه سلم لو كان يريد الاحتجاج بقول الصحابي على ما يعتقده المخالفون، لما خصص الخلفاء بالذكر، فلما أراد بما قاله الطاعة خصصه بالخلفاء)(2) .
بين ابن حزم الظاهري أنه لو تقصى المسائل التي خالف فيها عبد الله بن مسعود عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، لبلغت أزيد من مائة مسألة
ويقول الدكتور صلاح سلطان: (والحق أننا لا نجد في هذه المسائل التي اتفق عليها الخلفاء الأربعة، وصارت مما يعرف بأنها مجمع عليها، ولم نعلم أن سيدنا أبا بكر كان مشغولاً بتحقيقه باستنفار عمر وعثمان وعلي ليحقق بهم ـ دون غيرهم ـ الإجماع فيعمل به، بل قد اتفق في عهد سيدنا أبي بكر على التسوية في العطاء، وفاضل بينهم عمر، وجلد سيدنا عمر في الخمر ثمانين، ورجع عنه سيدنا علي مع أنه هو القائل به، ولعل سيدنا أبا بكر لم يعلم من سيأتي بعد عمر، ولا يتصور حدوث هذا الإجماع إلا في زمن أبي بكر، حيث بوفاته ينتهي إجماع الخلفاء الأربعة لفوات أحدهم، ومن ثم كان حجية إجماع الخلفاء الأربعة تبدو بحثاً فيما لم يوجد أو لم يسعَ الخلفاء لتحقيقه.
هذا مع أن الإقرار بأن نص الحديث لا يشير إلى الخلفاء الأربعة فقط، بل يشمل هؤلاء وغيرهم ممن يأتي بعدهم، وقد كان عمر بن عبد العزيز على سيرة النبوة والخلفاء الأربعة حتى عُدَّ خامسهم، فلماذا لا يدخل فيهم وهو من هو فقهاً وعلماً وعدلاً؟!
وهذا لا يمنع صحة الاقتداء بهم، والاختيار من أقوالهم، وترجيح حجتهم، توقيراً لهم، وليس على أنه حجة ملزمة تحرم مخالفتها)(5).
مخالفة ابن مسعود لعمر بن الخطاب:
بين ابن حزم الظاهري أنه لو تقصى المسائل التي خالف فيها عبد الله بن مسعود عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، لبلغت أزيد من مائة مسألة(6) ؛ منها: أن ابن مسعود كان يخالفه في أمهات الأولاد فلا يراهن حرائر من رأس مال سادتهن، ولكن من نصيب أولادهن، كما تعتق على كل أحد أمته إذا ملكها.
ومن ذلك أن ابن مسعود إلى أن مات كان يطبق في الصلاة، وعمر يضع اليدين على الركبتين، وينهى عن التطبيق، وكان ابن مسعود يضرب الأيدي لوضعها على الركب.
وابن مسعود يقول في الحرام هي يمين، وعمر يقول: هي طلقة واحدة.
وابن مسعود يقول في رجل زنى بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، وعمر يأمر الزاني أن يتزوج التي زنى بها(7) .
أما الدكتور محمد رواس قلعه جي رحمه الله، فقد استقرأ فقهي ابن مسعود وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فتوصل إلى خمس وأربعين مسألة من المسائل التي خالف فيها ابن مسعود عمر رضي الله عنهما، وقد ذكر هذه المسائل في كتابه: (موسوعة فقه عبد الله بن مسعود) ، ونقل عنه ذلك بتفصيل وترتيب واختصار الدكتور زيد بو شعراء في رسالته المهمة للماجستير (سنّة الخلفاء الراشدين)(8) .
هل سكوت الناس عن فعلٍ لأحد الراشدين يعد إجماعاً؟
والنقطة المتممة لهذا المبحث، هل يعد سكوت الناس عن فعل، أو قول، أو قرار، أو فتوى، لأحد الراشدين مع سكوت الصحابة من حوله، هل يُعدّ ذلك إجماعاً لا يجوز الخروج عليه؟
ومثال ذلك ما روي أن ابن عباس رضي الله عنه أظهر مذهبه في العول في الفرائض، فقال له بعض الصحابة: ما بالك! لم تبدِ ذلك في زمان عمر؟ فقال: كان رجلاً مهيباً، فهبته(9) . وهو ما ناقشناه في مبحث: (دعوى الإجماع على الرجم)، وبيّنا عدم حجية مثل هذا الإجماع، أو الصمت؛ فهو لا يعدو أن يكون: صمتاً.
الهوامش:
1 ـ رواه أحمد (17144)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (42)، عن عرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الأرناؤوط في مسند أحمد وسنن أبي داود (7/16).
2 ـ انظر: التلخيص في أصول الفقه للجويني، ص: 538.
3 ـ انظر: نهاية السول شرح منهاج الوصول للإسنوي (3/252).
4 ـ انظر: القواطع في أصول الفقه لأبي المظفر السمعاني المروزي (2/782 ـ 784).
5 ـ انظر: الأدلة الاجتهادية بين الغلو والإنكار للدكتور صلاح سلطان، ص: 195.
6 ـ انظر: الإحكام لابن حزم (6/61).
7 ـ انظر: الإحكام لابن حزم (6/62).
8 ـ انظر: موسوعة فقه عبد الله بن مسعود لمحمد رواس قلعه جي، ص: 21 وما بعدها. و: سنة الخلفاء الراشدين.. بحث في المفهوم والحجية للأستاذ الدكتور زيد بو شعراء، ص: 273 ـ 277.
9 ـ انظر: التلخيص للإمام الجويني، ص: 514.