ومن أخطر وأهم القضايا التي ينبغي علينا نقاشها في مسألة الرجم، هو أهم شرط لإقامته، وهو: إحصان الزاني، أن يكون الزاني أو الزانية محصناً؛ فهذا الشرط الرئيس والوحيد في الرجم، حوله إشكالات، ولم يحسمه من يقولون بالرجم، ليكون واضحاً متزناً في ضوابطه وشروطه؛ فقد اتفق الفقهاء على رجم المحصن، لكنهم اختلفوا في شروط الإحصان.
الإحصان في اللغة:
لقد أحسنت موسوعة الفقه الإسلامي المصرية، حين عرّفت الإحصان لغة، فدمجت بين تعريفه اللغوي والفقهي، باختصار جيد، فقالت: (مادة: حصن تدل على المنع، ومنه الحصن، لأنه يمنع من فيه، ويقال: أحصن الرجل إذا تزوج، وأحصن إذا أسلم، وأحصن إذا صار حراً، وأحصن إذا عف.. وفي جميع ذلك معنى المنع. فالرجل إذا تزوج منع نفسه من الزنا، وإذا أسلم منع نفسه من القتل، وإذا عتق منع نفسه من أن يُملَك، والعفيف يمنع نفسه من الفحش) .
(والإحصان في الشرع قسمان:
أ ـ إحصان الرجم.
ب ـ إحصان القذف.
ولكلٍّ شروط:
فإحصان الرجم عبارة عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع لوجوب رجم الشخص إذا زنى.
وإحصان القذف: عبارة عن اجتماع صفات في المقذوف تجعل قاذفه مستحقاً للجلد) .
الإحصان في القرآن والسنة:
فكلمة (محصن) أو (محصنة) في القرآن الكريم لها عدة مدلولات؛ فقد تأتي بمعنى العفة، وقد تأتي بمعنى الحرية، أو بمعنى التزوج.
أما الإحصان في السنة فقد ورد مجملاً، دون تفصيل، إلا في بعض أحاديث، سنبينها، ونبين درجتها، وفقهها. فقد ورد سؤال النبي صلى الله عليه وسلم في حالات الزنى، مع ماعز، والغامدية؛ فقد سأل ماعزاً: هل أحصنت؟ ومرة: هل أحصن؟ وكذلك الغامدية.
لكن لم يرد أنه سأل في حديث الأجير، ولا سأل زوجة صاحب العمل.
وأما اليهوديان فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم سأل أو تيقن من إحصانهما، فقد رُجما بالتوراة، والتوراة حكمها الرجم للزناة محصنين كانوا أم غير محصنين.
كلمة (محصن) أو (محصنة) في القرآن الكريم لها عدة مدلولات؛ فقد تأتي بمعنى العفة، وقد تأتي بمعنى الحرية، أو بمعنى التزوج.
لكن يبقى بعد كل هذه الحالات، أن نقول: لقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحصان، لكنه بلا تفصيل في شروطه، وفي مواصفات الإحصان. وقد رأينا التفاصيل ترد في كتب الفقه المذهبي، وكلها تفاصيل اجتهادية بعضها قد يكون فيه نص، والبعض الآخر لا نص فيه، بل يؤخذ من دلالات النصوص.
المذاهب الفقهية وشروط الإحصان:
اختلفت المذاهب الفقهية في الإحصان وشروطه، سواء المذاهب السنية أو غيرها؛ والشروط اختصاراً كما يلي:
فقد اشترط الأحناف شروطاً يعتبر بها الإحصان وهي: العقل، والبلوغ، والحرية، والإسلام، والنكاح الصحيح، وكون الزوجين جميعاً على هذه الصفات، والدخول في النكاح الصحيح .
لأن هذه الصفات إذا اجتمعت في الرجل أو المرأة كان مستحقاً للرجم، لأنها كلها مانعة من الزنا، فهي كالحصن يمنع من دخل فيه ويحفظه.
وظاهر الرواية عند الأحناف على اعتبار هذه الصفات مجتمعة، أي: إنها شرائط الإحصان .
وأما المالكية فشروط الإحصان عندهم عشرة، وهي:
البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، وإصابة في نكاح لازم، ووطء مباح بانتشار، وعدم مناكرة، وكون الموطوءة مطيقة ولو لم تكن بالغاً. وإذا تخلف منها شرط لم يرجم .
وأما الشافعية فشروط الإحصان عندهم أربعة:
البلوغ، والعقل، والحرية، ووجود الوطء في نكاح صحيح بغيبوبة الحشفة أو قدرها عند فقدها من مكلف بقبل، ولو لم تزل البكارة .
أما شروط الإحصان الحنابلة، فسبعة: الوطء في القبل، وأن يكون في نكاح، والحرية، والبلوغ، والعقل، وأن يوجد الكمال فيهما جميعاً حال الوطء .
أما الإحصان عند الظاهرية فقال ابن حزم: (ما نعلم الإحصان في اللغة والشريعة يقع إلا على معنيين: على الزواج الذي يكون فيه الوطء، فهذا إجماع لا خلاف فيه، وعلى العقد فقط، وما نعلمه يقع على الحرة المطلقة فقط، وأن إحصان العبد بتزوج الحرة، وإحصان الأمة أن يتزوجها الحر).
وشروط الإحصان الموجب للرجم عند الزيدية ستة: النكاح، والجماع، وصحة العقد، والتكليف، وأن يكون عاقلاً، والحرية .
الإحصان في الفقه الشيعي:
لكنَّ للفقه الشيعي رأياً مختلفاً في الإحصان، والفقه الشيعي كله يرى الرجم حداً للزاني المحصن، ولكنه يشترط في الإحصان ما يأتي:
الإصابة: أي الوطء في القبل على وجه يوجب الغسل، وأن يكون الواطئ بالغاً، وعاقلاً، وحراً، وأن يكون الوطء بفرج، وأن يكون مملوكاً بعقد دائم أو ملك يمين، وأن تكون الإصابة معلومة، وأن يكون متمكناً من الوطء بصفة دائمة.
لقد انفرد الفقه الشيعي هنا عن كل المذاهب بشرط مهم، وهو: إمكان الجماع وحدوثه دائماً، دون موانع، فتقول كتب الفقه الشيعي في تفصيله: (الإحصان لا يثبت إلا بأن يكون للرجل الحر فرج يغدو إليه ويروح متمكناً من وطئه، سواء كانت زوجته حرة أو أمة أو ملك يمين، ومتى لم يكن متمكناً منه لم يكن محصناً، وذلك بأن يكون مسافراً عنها، أو محبوساً، أو لا يكون مخلّى بينه وبينها، وكذلك الحكم فيها سواء، ومتى تزوج الرجل، ودخل بها، ثم طلقها وبانت منه، بطل الإحصان بينهما).
رأي لرشيد رضا يتفق مع الفقه الشيعي:
ولم نجد في دائرة الفقه السني من يقول بهذا الرأي، إلا في العصر الحديث، في القرن العشرين، وهو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا؛ وقد مال من الفقهاء الكبار المعاصرين لنفس رأي الشيخ رشيد رضا: العلامة الشيخ مصطفى الزرقا وقد مال لتأييد رشيد رضا في رأيه الشيخ أبو زهرة، وقد قال بنفس رأي رشيد رضا، والزرقا، وأبي زهرة: محمد سليم العوا، ومحمد بلتاجي، وإسماعيل سالم عبد العال .
لماذا النقاش في الإحصان وشروطه؟
رأينا كيف اختلف الفقهاء في أهم شرط لإقامة حد الرجم على الزاني، وهو: الإحصان؛ فاتفقوا على حكمه، واختلفوا في شرطه وتعريفه وأوصافه، وهو أهم ما في الموضوع. ولاحظنا أن هذا الاختلاف قد أحدث اضطراباً، وأحدث تناقضاً أشرنا إلى بعضه في المقدمة. ونكمل بعض هذه التناقضات أيضاً.
فعلى قول جمهور أهل السنة بكل مدارسه الفقهية، سواء المذاهب الأربعة، أو الزيدية، أو الإباضية، أو الظاهرية نجدهم يجمعون على مسألة: من تزوج ودخل بمن تزوج بها، بمجرد أن مسها، أو فض بكارتها، أو جامعها جماعاً يوجب الغسل، فقد أصبح محصناً، لو زنى فقد وجب رجمه حتى الموت.
وما العلة في ذلك: أنه قد صار له فرج يحصنه. فلو طلق مثلاً امرأته بعد هذه اللمسة، أو المرة، أو سافر لسفر بعيد، أو سجن لسنوات طويلة، أو لأي ظرف يحول بينه وبين حق الإشباع الجنسي من زوجه، رجلاً كان أم امرأة، فقد اعتبر محصناً يرجم إن زنى، وهو ما يتنافى مع الهدف الذي شرع لأجله حد الرجم، والتفريق بينه وبين من لم يحصن، على حسب قول من يقول بحد الرجم، وهو ما يستدعي نقاشاً ومراجعة له.
لقد نقلت آراء الفقهاء قديماً وحديثاً، سنة وشيعة، في قضية الإحصان، لنرى كيف أن مذاهب أرادت أن تخفف
العقوبة من الرجم للجلد في حالات، فضيقت في تعريف أهم شرط في الرجم، وهو الإحصان؛ وكذلك رأينا رشيد رضا والزرقا وأبا زهرة يميلون إلى هذا الرأي، لعدم وجود نص شرعي يمنع هذا التخفيف والمراعاة، ولم يعتبر ذلك إنكاراً لحد.
[email protected]