مع بدء فعاليَّات معرض القاهرة الدولي للكتاب، نشرت مواقع إلكترونيَّة عددًا من التقارير الزاعِقة، "قديمة" المحتوى؛ التي تفتقرُ إلى الدقَّة في جمهرة ما تعرِضه. ويبدو أن كتابها قد اعتمدوا في معلوماتهم إمَّا على ضيق صلاتهم الأيديولوجيَّة، أو على معلومات مُستقاة من صفحات بعض الكتاب المغمورين والهامشيين على شبكات التواصل الاجتماعي؛ فغاب عنهم تمامًا أي إدراكٍ كلي أو حقيقي لمشهد النشر في مصر. وهو المشهد الذي استعرضنا بعضًا من التغيُّرات التي طرأت عليه، في مقالات سالِفة؛ إذ شَهِدَ تغيُّرات راديكاليَّة بلغت ذروتها مع هيمنة شبكات التواصُل الاجتماعي إبَّان العقد الأخير.
صحيح أن تحول سوق النشر إلى مركزيَّة الرواية قد بدأ قبل عقدين تقريبًا، بل ويُمكن عزو شرارته الأولى إلى "دار ميريت"؛ غير أنه ظلَّ سوقًا تقليديًّا بالدرجة الأولى، حتى هيمنت سوق مشاهير شبكات التواصُل إبَّان العقد الأخير. ونعني بتقليديَّة السوق أن القاص أو الروائي الناشئ كان يحمل عمله الأدبي إلى الناشر، الذي يعرِضه بدوره على لجنة قراءة؛ ثم يُقرر بناءً على رأيها نشر العمل من عدمه. لتتولى بعد ذلك ا?لة الأدبيَّة ـ التي كانت تحكمها شلل وسط البلد ـ تلميع الأديب أو وأده، بحسب توافق نتاجه مع أهوائهم وتوجُّهاتهم الأيديولوجيَّة. هذه الشلل المرتزقة نفسها كانت هي الصورة التي آل إليها اضمحلال الشلل النقديَّة الشيوعيَّة القديمة، التي هيمنت على الحياة الثقافيَّة في مصر طيلة نصف قرن تقريبًا، منذ تصالح حفنة مع الشيوعيين مع النظام الناصري؛ ليُسلمهم ناصر مفاصل الثقافة في مصر، ابتداءً بتولية محمود أمين العالم رئاسة مجلس إدارة مؤسسة أخبار اليوم.
صادرت الدولة وخرَّبت ـ خلال الأعوام الثلاثة المنقضية ـ أكبر سلسلة مكتبات في مصر، بدعوى انتماء أصحابها للإخوان
وفي ظل التدهور الشامل للحياة النقديَّة، المصاحِب لهيمنة بقايا الشِلل و"العصابات" الشيوعيَّة؛ طوَّر "الإسلاميون" المؤدلجون شِللًا مُناظرة لشلل الشيوعيين وصبيتهم، حتى تُعرِّف بنتاجهم الأدبي؛ غير أنها كانت شلل أخفت صوتًا بكثير، بسبب إبعادها عن المنصات والمنافذ الصحافيَّة المهمة في مصر. فكان تأثيرها محدودًا، ومؤسساتها أكثر هامشيَّة، وخطابها أشد عدائيَّة. وهي عينها الشلل التي تكوَّنت حول "المعارك الأدبيَّة" المتتابِعة التي خاضها الإسلاميون إبان الربع الأخير من القرن العشرين.
وطيلة سبعين عامًا، منذ انقلاب 1952م وإلى اليوم؛ فإن السمة الغالِبَة على تعامل الدولة مع دور النشر الإخوانيَّة كانت هي المصادرة والتخريب، باستثناءات تاريخيَّة جد قليلة؛ ربما كان أبرزها منتصف سبعينيات القرن العشرين ومنتصف تسعينياته، إضافة إلى العامين التاليين على تنحية مبارك. أما ما عدا ذلك، فإن التاريخ يشهد على أن منع ومصادرة الدور الإخوانيَّة ليس بدعة ابتدعها نظام السيسي؛ بل هو استمرار مطرد لسياسة لم تتغير طيلة سبعين عامًا. لم تتغيَّر في النوع، وإنما كان التغيُّر دومًا في الكم. وحتى الكتاب الذين كانت لهم انتماءات إخوانيَّة (أمثال محمد الغزالي أو يوسف القرضاوي أو الأخوين قُطب)؛ فقد كانت بعض كتبهم ممنوعة طيلة الوقت (مثل "معالم في الطريق" لسيد قطب، و"قذائف الحق" للغزالي، و"جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب) وسُمح لبعضها فقط بالصدور، خصوصًا من خلال الدور الكبرى الموالية للدولة؛ مثل: الشروق ونهضة مصر. وهو ما كان جزءًا من السياسة الاستثنائيَّة الذكية لمبارك وبطانته، في ترك مُتنفَّس جماهيري للمعارضة (خصوصًا الإسلاميين)؛ منعًا للانفجار الاجتماعي. ولم يكن هذا المتنفَّس طبعًا ليُسمح به خارج نطاق سيطرة الدور الخاصة، التي تدور بالكامل في فلك الدولة.
لم تحتج الدولة أبدًا إلى مبررات حتى تُفسح المجال للناشرين السلفيين المرتبطين بالسعوديَّة، أو لتقمع الناشرين الإخوان، ولا كانت تلزمها مسوغات حتى تمنع الإخوان من المشاركة في معرض القاهرة للكتاب، إن سمحت لهم أصلًا بالعمل خارجه. بل ولم يكن يلزمها مبرر أو مسوغ حقيقي لمنع أي ناشر أو مصادرته، فهي بمنطقها وطبيعتها "إلهٌ" لا يُسأل عما يفعل، وهو منطق لم يتغيَّر اليوم حتى يصير بوسعنا الحديث عن آليات ومبررات ومسوغات حقيقية ...إلخ. وقد صادرت الدولة وخرَّبت ـ خلال الأعوام الثلاثة المنقضية ـ أكبر سلسلة مكتبات في مصر، بدعوى انتماء أصحابها للإخوان؛ وانقضى الأمر بلا بواكي. والأمر نفسه ينطبِقُ على "كتاب الإخوان"، أو الكتاب المشهورين بأنهم قد انتموا يومًا إلى الإخوان؛ وإن كان في المجال مُتسع ?خرين لا يُعرَف انتماؤهم. فبعد أن كان الحظر مقصورًا على كتب بعينها لهؤلاء المؤلفين، فقد حُظِرت كتب الأخوين قطب مُطلقًا عَقِب انقلاب عام 2013م مباشرة، وتلتها كتب الغزالي. ثم جاء حظر كتب القرضاوي متأخرًا بعض الشيء، ومواكبًا للحصار الذي ضُرِب على قطر؛ بدعوى خيانة الرجل لمصر وانحيازه للقطريين!!
هذا الحظر لكتب أربعة من كبار المؤلفين، الذين صنعت بهم دار الشروق سُمعتها في عالم النشر؛ لم يكن حدثًا ثقافيًّا استثنائيًّا أو عجيبًا أو مُقحمًا على هذا السياق، بل كان اطرادًا لسياسة الدار نفسها، التي بدأت بالجنوح إلى الرواية، قبل عقد ونصف تقريبًا؛ تمشيًا مع التغيُّرات في "طبيعة السوق". فاشترت حقوق كتب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، وقلَّدتها نهضة مصر إذ ابتاعت حقوق يوسف إدريس ويحيي حقي، وتنافستا معًا على كتب جمال الغيطاني. ومتأخرًا بعض الشيء، احتذت المصرية اللبنانية حذوهما حين ابتاعت حقوق كتابات إحسان عبد القدوس. لقد بدأت موجة الرواية بدور صغيرة، ثم تلقَّفتها الدور الكبيرة، ووضعت كل ثقلها في هذا المسار. تزامن مع هذا، بطبيعة الحال؛ إهمال دار الشروق لكتب عدد آخر من المفكرين المصريين، الذين كانوا يُكملون باقتها؛ مثل سليم العوا وطارق البشري وفهمي هويدي ورفيق حبيب، ومن لف لفهم.
وتدريجيًّا، تم تهميش الكتاب الفكري بشكل شبه كامل في أكبر داري نشر في مصر، انسياقًا وراء موجة الرواية. وهي الموجة التي لم تصطنعها الدور الكبيرة، ولا الدولة، ولا حتى الغياب الموهوم للكتاب الإسلامي؛ وإنما اصطنعتها دور صغيرة، تمتَّعت بتمويل أوروبي سخي؛ وركب الجميع موجتها طمعًا بالربح الوفير. وهو ما سنكمله في مقال تال.