هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن أكثر المستشرفين لتراجع الإمبراطورية الأمريكية يتخيلون توالي ظهور علامات التصدع والتراجع الأمريكيين بهذا الاضطراد، ليس من باب القصور في التحليل وإنما من كان ليتنبأ بظهور هذا العامل المجهري "كوفيدـ19" الذي اختصر الكثير من الزمن؟
دعونا نعود خطوة إلى الوراء، لنجد أن مظاهر التفرقة العرقية، وعنف الشرطة الأمريكية ضد شريحة من مواطنيها ليست أمرا جديدا، ودرجة هذا التمييز في صيغته الحالية ليست إلا واحدة من التناقضات الكامنة في المنظومة الأمريكية، تناقضات كان المجتمع الأمريكي متعايشا معها ولم تصل يوما لتكون صاعق تفجير، فنحن ما زلنا نتذكر أمثلة من قبيل قتل الشرطة الأمريكية للمواطنين الأمريكيين من أصول أفريقية كحادثة فيلاندو كاستيل قبل أربع سنوات حيث قُتل داخل سيارته بسبع طلقات أمام خطيبته وابنتها ذات الأربعة أعوام على إثر مخالفة مرورية، وقبله بسنتين قُتل الشاب الأعزل ميشيل براون ابن 18 ربيعاً، ولم يصاحب هذه الحوادث إلا مسيرات لم تستمر إلا لساعات، فكانت محدودة في الزمان وفي رقعة الانتشار، حالها في ذلك حال أي قضية اجتماعية أخرى يتذمر الأمريكيون منها.
وهذا يقود إلى سؤال جوهري، فما الذي تغير في المجتمع الأمريكي وجعل من قضية مقتل جورج فلويد الأخيرة ـ على قساوتها ـ شرارة حراك كبير، شمل شرائح واسعة من الأمريكيين حتى البيض منهم، ووصل لأكثر من 12 ولاية؟ وهنا مربط الفرس.
ترامب فجر تناقضات الولايات المتحدة
يعتقد الكثيرون أن وصول الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تزامن مع ظلال بدايات تراجع مركز الإمبراطورية الأمريكية في العالم، فكان انتخاب هذا الرئيس الذي يوصف بالمهرج والآتي من خارج المنظومة التقليدية ربما الإشارة الأولى الواضحة على التوجه الأمريكي نحو محاولة لملمة أعباء الانتشار الإمبراطوري والتركيز على الداخل، فكل وعود دونالد ترامب الانتخابية كانت تتمحور حول نيته وقف الانخراط العسكري الأمريكي المباشر في النزاعات العالمية، وتحويل بند النفقات هذا إلى الداخل لإعادة ترميم البنية التحتية ومعالجة شح الوظائف باعترافه، وربما لم ينتبه البعض إلى أن شعاره الانتخابي "أمريكا أولا" وهو شعار جميل لفظيا في الظاهر لكنه في العمق شعار انعزالي بطبيعته، لا تتبناه الإمبراطوريات العالمية القادرة عادة، بل تتبناه الدول التي تكتنفها الأزمات الداخلية.
عموما، فور وصول دونالد ترامب إلى الحكم، تفجرت تناقضات داخلية غير مسبوقة في منظومة الحكم الأمريكي بين الرئيس الجديد وبين القوى الليبرالية في الدولة العميقة، فهذه القوى الأخيرة لا ترى في العودة إلى الداخل والانعزالية الكاملة وتطبيقهما بشكل سريع ـ بحسب فلسفة الرئيس المنتخب حديثا ـ حلا ناجعا لمعضلة تراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، وظهرت انعكاسات هذه التناقضات الحادة داخل منظومة الحكم الأمريكي على شكل توترات واضحة للمتابع.
بينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحصد الفشل خلال العقد الماضي في حروبها في منطقة غرب آسيا التي كان الهدف الإستراتيجي منها هو إحكام السيطرة على منابع الطاقة وخطوط نقلها، تمكنت اقتصادات صناعية عملاقة من الظهور وتثبيت موقعها كمنافس جدي للاقتصاد الأمريكي كحال الصين مثلا.
قراءة طبيعة هذه التوترات ودرجة حديتها غير المعتادة في الداخل الأمريكي، تشير إلى أنها ليست إلا تعبيرا صارخا عن مدى الانقسام العامودي داخل أروقة صنع القرار، حول الإستراتيجيات الأمثل للتعامل مع ملفات العصر الضاغطة التي باتت تشكل تحديا جديا للهيمنة الأمريكية، وهذه التوترات في المحصلة هي انعكاس لمدى العمق الحقيقي للأزمة التي تعيشها الإمبراطورية الأمريكية في الوقت الراهن وحجم الملفات الضاغطة، ملفات بحجم صعود روسيا السياسي وصعود الصين الاقتصادي مصحوبا بالتحديات في بحر الصين، بالإضافة إلى تراجع النفوذ الأمريكي في منطقة غرب آسيا لصالح قوى محلية صاعدة.
يذهب الكثير من المنظرين، أمثال "Paul Kennedy" في كتابه صعود وهبوط القوى العظمى 1987، إلى أن مثل هكذا انقسامات حادة تصاحب الإمبراطوريات عندما تواجه مآزق بنيوية وتدخل طور الأفول، كنتيجة لتزايد الأعباء المترتبة على الانفلاش الإستراتيجي لتلك القوى العظمى، وانعكاس هذه الأعباء طويل المدى على بنيتها الاقتصادية، هذه الانقسامات عادة تمتد لتصيب المجتمع بعمومه، لذلك لم يكن مستغربا أن تنعكس كل هذه الانقسامات لدى الطبقة الحاكمة على المجتمع الأمريكي انقساما عموديا، وزاد في هذا طبيعة شخصية دونالد ترامب الجدلية ونظرته العنصرية لباقي الأعراق والشعوب.
لكن الأهم هنا أنه في ظل هذا الانقسام العامودي في الطبقة السياسية والمجتمع، كان السواد الأعظم من الأمريكين يترقب الإنجازات الاقتصادية التي وعد بها هذا الرئيس في حملته الانتخابية، والذي َسوق نفسه فيها على أنه جاء ليعيد "أمريكا عظيمة مجددا" ويصلح ما أفسد الدهر؛ ولكن هل ُيص ِلح العطار ما أفسد الدهر؟
صحيح أن أوايئل فترة دونالد ترامب الرئاسية كانت قد شهدت بعض الانتعاش الاقتصادي بسبب المليارات العربية المنهوبة من دول الخليج، ولكن هنا تكمن المعضلة، فهذه الأموال هي حلول مالية وليست حلولا اقتصادية مستدامة، فهي كحقن المنشطات يمكن لها أن تُنعش لبعض الوقت، لكنها لا تطيل في عمر "الرجل المريض".
أزمة بنيوية وليست عابرة
إن الأزمة التي تُعانيها الولايات المتحدة الأمريكية راهناً على الصعيد الاقتصادي، هي أزمة بنيوية وليست أزمة مالية عابرة يمكن حلها بجمع الأموال من هنا أو هناك، وإن أحد مسببات هذه الأزمة هو الفلسفة الاقتصادية "النيوليبرالية" التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي، هذه الفلسفة الاقتصادية التي يمكن اعتبار أن "ميلتون فريدمان" قد وضع أسسها مع بعض الاقتصاديين مثل "جنسون وميشلينغ"، قد حولت الاقتصاد الأمريكي من اقتصاد صناعي إلى اقتصاد مالي خدماتي. فلب هذه الفلسفة يقوم على ربط نجاح أي مؤسسة صناعية بأسعار الأسهم في الأسواق المالية، ومدى قدرة تلك المؤسسة على تحقيق أكبر قدر ممكن من العايئدات المالية وفي أقل زمن متاح، مما يحول المؤسسات الصناعية فعليا من مشاريع صناعية استراتيجية إلى مشاريع مالية ربحية قصيرة النظر يضبط حركتها المضاربات في أسواق الأسهم والتي ما هي إلا في العمق لعبة قمار.
ومن مرتكزات نجاح هذه الفلسفة أيضا مدى قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على إبقاء هيمنتها على دول العالم عبر الإمساك بمنابع الطاقة وخطوط نقلها، والتحكم بأنابيب المال والاتصالات، فدول العالم ضمن هذه النظرة الأمريكية تحل محل القوى العاملة التي تكون وظيفتها زيادة القيمة المضافة لصالح المركز الرأس مالي.
وبينما كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحصد الفشل خلال العقد الماضي في حروبها في منطقة غرب آسيا التي كان الهدف الإستراتيجي منها هو إحكام السيطرة على منابع الطاقة وخطوط نقلها، تمكنت اقتصادات صناعية عملاقة من الظهور وتثبيت موقعها كمنافس جدي للاقتصاد الأمريكي كحال الصين مثلا.
إن الأزمة التي تُعانيها الولايات المتحدة الأمريكية راهناً على الصعيد الاقتصادي، هي أزمة بنيوية وليست أزمة مالية عابرة يمكن حلها بجمع الأموال من هنا أو هناك، وإن أحد مسببات هذه الأزمة هو الفلسفة الاقتصادية "النيوليبرالية" التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي،
وبالعودة إلى نجاحات دونالد ترامب في أوائل عهده، نجد أن مجيء العامل المجهري "كوفيدـ19" محا كل مظاهر التعافي الاقتصادي المؤقتة التي شعر بها المواطن الأمريكي، كما أنه عجّل من الوصول إلى الاختناق الاقتصادي الذي كان يراه كثير من خبراء الاقتصاد يلوح في الأفق، فانهارت شركات وأقفلت مؤسسات، وارتفعت نسبة البطالة إلى أعداد غير مسبوقة، إذ وصلت إلى ما يزيد على الخمسة وأربعين مليون والرقم في تصاعد، وأضف إلى الجانب الاقتصادي ما كشفته جائحة "كوفيدـ19" من هشاشة في البنية التحتية الصحية الأمريكية وهي على ما يفترض الدولة الأعظم في العالم، والطريقة الهزلية التي أدار بها دونالد ترامب هذا المستجد.
هذه الظروف المتظافرة التي سقناها في هذا المقام من تراجع أمريكي على الصعيد الدولي، وأزمة اقتصادية بنيوية، وانقسامات حادة مجتمعية ترافق عادةً الإمبراطوريات في طور الأفول، تؤدي بالضرورة إلى طفو كل التناقضات المجتمعية الكامنة إلى السطح، وتجعل من المجتمع حطبا جاهزا للاشتعال عند أي شرارة، وكانت هذه الشرارة هي حادثة مقتل "جورج فلويد".
وأخيرا يبقى السؤال الذي يدور في ذهن المتابع للمشهد؛ ما هي عاقبة حركة الاحتجاجات هذه؟ وهنا يكون من الحكمة التحفظ على إصدار أحكام قطعية متعجلة، لكن ما يمكن قوله بحسب ما هو قائم لهذه اللحظة هو أن هذا الحراك من الإجحاف بمكان وصفه بالثورة، حيث أنه يفتقر للقيادة وتنقصه الأهداف وليس له برنامج واضح.
فهذا الحراك يتقاطع في عدة جوانب مع بعض الحراكات التي شهدها وطننا العربي مؤخرا تحت مسمى "الربيع العربي" الذي أطلقه عليها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، من حيث كونها عشوائية واعتباطية في العديد من جوانبها، وعلى الأرجح أن يُزهر هذا "الربيع الأمريكي" مزيدا من التناقضات والأزمات الداخلية، وواضح أن الانقسامات الحادة على وقع هذا الحراك ستتجلى في الانتخابات الأمريكية القادمة وما بعدها، خاصة إن خسر دونالد ترامب تلك الانتخابات، وفي المحصلة مهما كانت مآلات هذا الحراك فإنه سيكون سوساً آخر ينخر في عجز شجرة الإمبراطورية الأمريكية.
فلننتظر ونرى ما تأتي به قابل الأيام ...
*كاتب وباحث في الشؤون السياسية