قضايا وآراء

استراتيجية العجز في مواجهة الضم

طارق حمود
1300x600
1300x600

ليس مستغرباً حالة المواجهة العاجزة فلسطينياً في وجه مشروع الضم وفقدان الخيارات الفاعلة لوقف العجلة التي بدأت بطحن الهوية الفلسطينية للضفة الغربية منذ احتلال 1967، وتضاعفت حركتها تحت الغطاء الذي وفره اتفاق أوسلو وما نتج عنه من تفاهمات إدارية هناك.

قد لا يكون هناك قيمة لاكتشافات السلطة الفلسطينية بأن الضم سيقضي على عملية السلام، أو أنه سيجعل من حل الدولتين أمراً مستحيلاً. والسبب أن السلطة نفسها كانت ترى بأم عينها عمليات الضم والترانفسير الصامت طوال عمر التسوية الممتد ل 27 سنة حتى اليوم. استثمر الاحتلال تفاهمات أوسلو وتقسيمات المناطق الثلاث في الضفة الغربية، حيث يسيطر الاحتلال بموجب الاتفاق على منطقة ج التي تمثل 60٪ من مساحة الضفة ويديرها بالكامل. وهي تقسيمات وفرت غطاءً قانونياً لصناعة واقع الضم، حيث منعت سلطات الاحتلال الفلسطيني من البناء، بل وصادرت الأراضي وهدمت ما كان قائماً تحت الغطاء القانوني الذي قدمه أوسلو، الذي جعل الاحتلال ممارسة متفق عليها. 

خلال هذه الفترة تغول الاستيطان بشكل متوحش، وفرض الاحتلال تشريعات وقوانين وقرارات تجعل من حياة الفلسطيني غير قابلة للاستمرار في مناطق ج. وهو ما نتج عنه ترانسفير صامت مؤطر بإجراءات متفق عليها بموجب التسوية. فالحديث عن الترانسفير المرافق أو المحتمل كنتيجة للضم هو اكتشاف معكوس أيضاً. إذ أن الضم هو النتيجة الطبيعية والنهائية لعمليات الترانسفير التي تمّت طوال عمر الاحتلال للضفة. فغور الأردن الذي كان يقطنه قبل عام 1967 حوالي 320 ألفاً تقلص إلى 65 ألفاً اليوم. وهؤلاء سيخضعون لصيغة قانونية عنصرية تجعلهم بحاجة لإذن لممارسة حقهم في الحياة في بيوتهم وأراضيهم.
 
لقد قامت عقيدة الضم الإسرائيلية على مبدأ "أرض أكثر، وسكان أقل"، وهو مبدأ قدم له أوسلو كل متطلبات الممارسة المريحة لتحويله لأمر واقع. وهو واقع أنتج استراتيجية عجز فاقدة لكل الخيارات باستثناء خواء الصمت الذي طالب به البعض ليكون استراتيجية بديلة اليوم، وترك الأمور للمجتمع الدولي الذي شارك الاحتلال بناء استراتيجيات الضم من خلال صمت أو دعم ما. استراتيجية الصمت تخدم الهروب من استحقاقات الإجماع الوطني على المواجهة والتي تعجز السلطة بطبيعتها عن تأطيرها لإنتاج حراك مواجهة قد يولد فاعلاً وطنياً غير الذي اجترحته فواعل السلطة ومساراتها.
 
إن فكرة الاحتلال بطبيعتها نابعة من نظرة توسعية يقوم مشروع الضم في القلب منها. وقد بذل الاحتلال الإسرائيلي كل إمكاناته وطاقاته لجعل الضم مسألة أمر واقع يصنع نقطة لاعودة من خلال تكثيف الاستيطان بمقابل عزل المجاميع السكانية الفلسطينية في كانتونات تجعل من أي حديث عن مشروع فلسطيني مستقبلي محصور فيها. وهي فكرة تقوم على أن التغيير الديمغرافي يصنع تغييراً جغرافياً بالضرورة، ويرسم خرائط جديدة سياسياً تكون أكثر منطقية للنقاش من استجرار مطالب تاريخية. فنقطة اللا عودة التي رسمها احتلال 1967 جعلت الوعي السياسي العام دولياً ينظر لتلك النقطة الزمنية على أنها مبتدأ المطالبة الحقوقية الفلسطينية ومشروعها السياسي. 

 

فكرة الاحتلال بطبيعتها نابعة من نظرة توسعية يقوم مشروع الضم في القلب منها. وقد بذل الاحتلال الإسرائيلي كل إمكاناته وطاقاته لجعل الضم مسألة أمر واقع يصنع نقطة لاعودة من خلال تكثيف الاستيطان بمقابل عزل المجاميع السكانية الفلسطينية في كانتونات تجعل من أي حديث عن مشروع فلسطيني مستقبلي محصور فيها.

 



اليوم يحاول مشروع الضم نصب نقاط لا عودة جديدة من خلال جعل الجغرافية الفلسطينية في الضفة الغربية مرتبطة بحجم التوزع السكاني للفلسطينيين فيها. وعلى سبيل المثال فغور الأردن الذي يمثل حوالي 29٪ من مساحة الضفة فيه حوالي 2٪ فقط من سكانها. مثل هذه الأمثلة لا تنحصر على الغور فقط وإنما على كل تقسيمات أوسلو التي أعطت 60٪ من الضفة المفيدة للاحتلال يصنع فيها ما يشاء إلى حين الوصول لتسوية المواضيع النهائية التي ستُناقش بناءً على خريطة الأمر الواقع الذي يصنعه الاحتلال. 

الأمر لا يقف عند هذا الحد فقط، فخريطة الضم اليوم تصنع خريطة جغرافية يُبني عليها خريطة سياسية بالضرورة. ينطلق منها مشروع الضم خطوة باتجاه إعادة رسم الكيان الفلسطيني سياسياً لينسجم مع واقعه الجغرافي الجديد. فمشروع الدولة في الكانتونات المعزولة في الضفة يستحيل معها قيام كيان سياسي طبيعي، وهو ما يجعل الضم مشروعاً مستمراً وغير متوقف عند حدود صفقة ترمب. فعدم قدرة الكانتونات على بناء كيان سياسي يعني ضرورة البحث عن حل جديد، قد يكون توفر بعد سنوات ضرورية لتفريغ هذه الكانتونات أكثر من السكان الذين سيجدون بالانتقال للأردن، وربما أبعد من ذلك، خياراً حياتياً لا مفر منه. 

حينها يمكن تصوير القضية الفلسطينية على أنها مشكلة إدارة بلدية، وليست مشروعاً وطنياً يمتلك مقومات بناء الدولة الذي جعلها الواقع حديثاً من الماضي. أي تحويل المشروع الوطني الفلسطيني التقليدي (بكل إشكالاته) إلى مشروع إدارة بلدية للجزر المعزولة عن بعضها، والتي تستجدي الارتباط بمحيطها بحبل لا يقدمه إلا مرافئ بحر الاحتلال المحيط بها. وهذا يفسر سبب غضب السلطة ورفضها لصفقة ترمب، إذ لا يجعل لها المشروع مستقبلاً ولا في أسوأ التصورات شكلاً. وهنا لابد من تذكر عدم اهتمام الاحتلال ودوائر الفعل الدولية بخليفة محمود عباس إلى الآن كما اهتمت بخليفة عرفات قبل وفاته بأعوام. فالقيادة الفلسطينية بشكلها التقليدي مرتبطة بالمخرج السياسي الذي سيتبع واقع ما بعد الضم.
 
إن التحدي الذي يواجهنا كفلسطينيين ليس في مشروع الضم نفسه لأنه ممتد كقديم جديد، ولم تمثل إدارة ترمب وصفقته إلا لحظة حقيقة بما هو واقع. التحدي هو في عجزنا استجماع ما لدينا من آليات ورصيد نضالي من أجل مواجهة ما بعد الضم أو على الأقل تعطيله. السلطة بكل مؤسساتها لا يمكن أن تكون فاعلاً رئيسياً في مواجهة ما قامت هي من أجله وعلى أساسه، وبالتالي فإن الطبيعة التعاقدية بين السلطة والاحتلال والدول المانحة لا تعطيها أفضلية قيادة المواجهة اليوم، رغم ضرورة استثمار الشعور العام بالتهديد لديها من أجل صناعة لحظة إجماع وطني. فقيادة السلطة اليوم أمام تهديد وجودي لا بسبب قدرتها على المواجهة، بل بسبب انتهاء الدور ومتطلبات الاحتلال الانتقال للمرحلة التالية. 

وعليه فإن إعادة الاعتبار لمؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية لا ينبغي تصورها على أنها من مكرورات الخطاب النقدي الفلسطيني اليوم. بل هو متطلب جوهري، وقد يكون حاسماً في إعادة تدوير العجلة للخلف. استجماع نقاط القوة المتمثلة بوجود شعب لاجئ لايزال يحتفظ بصفته القانونية وإعادة طرحه كقضية في وجه العالم من خلال تكثيف ممارسته الوطنية في مناطق تواجده مدعوماً بمؤسسات تمثيلية حقيقية. 

البحث عن استراتيجية فاعلة اليوم يتطلب منا التواضع في قراءة ما بين أيدينا من أوراق متبقية دون الغرق في أحلام ثورية ندرك جميعاً أننا بتنا أبعد إليها منها إلينا بحكم المركب السياسي داخلياً وإقليمياً. اتفاق القاهرة عام 2005 يمثل نقطة انطلاق مهمة، واستعادته مسألة أكثر من ملحة حتى لا نعيد تكرار أنفسنا بالبحث عن صناعة مرجعيات وطنية متفق عليها. اللحظة التي نعيشها تعطي أملاً بإمكانية صناعة الإجماع الوطني من خلال استثمار لحظتي الخوف والحقيقة معاً، وهو مركب ثنائي لم يواجه القيادة الفلسطينية كمزيج واحد إلا هذه المرة منذ قرارها الدخول بمسار التسوية. وهي لحظة فارقة صنعت إجماعاً في الخطاب السياسي، ولانزال بحاجة إلى هيكلته عن طريق مأسسة فعل نضالي موحد. إذا فشلت السلطة في هيكلة الإجماع، ولم تتجاوز رغبويتها الاحتكارية، فإن الإجماع سيلتئم باتجاه فكرة جدوى وجودها من عدمه. هذه هي الاستراتيجية الوحيدة المتاحة مقابل استراتيجية العجز القائمة اليوم.

التعليقات (0)