يبدو المشهد السوري اليوم على عتبة تصعيد جديد لكسر
حالة الجمود، وعدم اليقين الذي تعيشه البلاد منذ انحسار الأعمال القتالية في نهاية
2018، خصوصا بعد فشل محاولات الانفتاح على نظام
الأسد من قبل
تركيا ثم السعودية
والجامعة العربية.
تتزايد القناعات بكون الأسد ليس شريكا ممكنا في الحل
السياسي السوري، إذ يرفض النظام حتى الآن معظم المطالب الدولية والإقليمية من أجل
تحقيق انسياب سياسي يساهم في تجاوز عتبة اللايقين. خمس سنوات منذ العام 2018 قد
تكون أكثر من كافية لاختبار الإرادات السياسية، وهو ما يبدو أن نظام الأسد قد فشل
فيه، حيث أضاع الفرصة مرتين على الأقل، الأولى مع تركيا، والثانية مع السعودية
والجامعة العربية.
فالنظام يتطلع لعلاقات ذات طابع عصابي تعمل بنظام
الأتاوة، كتلك التي نسجها مع الإمارات العربية المتحدة، حيث قدمت أبو ظبي دفعات من
العملة الصعبة للنظام السوري في ضوء تطور العلاقة بين الطرفين، التي كانت في إطار
مقايضة الكبتاغون. ويبدو أن النظام وحلفاءه على الأرض يفضلون هذا الشكل العلائقي، في ظل وجود 5 قوى خارجية على الأرض السورية، وعقوبات دولية على النظام وحليفه
الإيراني، قد تجعل من أي علاقات في إطار تقليدي غير ذات جدوى في المدى القريب؛
لغياب الإجماع الدولي حولها.
تتزايد القناعات بكون الأسد ليس شريكا ممكنا في الحل السياسي السوري، إذ يرفض النظام حتى الآن معظم المطالب الدولية والإقليمية من أجل تحقيق انسياب سياسي يساهم في تجاوز عتبة اللايقين. خمس سنوات منذ العام 2018 قد تكون أكثر من كافية لاختبار الإرادات السياسية، وهو ما يبدو أن نظام الأسد قد فشل فيه.
لو قمنا بتحليل مشهد القوى الخارجية في
سوريا، فسنجد
أنها قوى لا تمارس وضعا مستداما، ويخضع سلوكها للقلق منذ 2018. فتركيا التي أنشأت
3 مناطق سيطرة في الشمال، لم تُنهِ التهديد الكردي لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)،
التي تمارس ما يشبه إدارة ذاتية في مناطقها. كما أن هذه المناطق ليست كافية لعودة
اللاجئين السوريين، رغم الاستثمار التركي الكبير في تلك المناطق في تأهيل بناها
التحتية، فقد فشلت محاولات أنقرة المستمرة لما تسميه "العودة الآمنة
والطوعية" للاجئين، بسبب عدم وجود مكان مؤهل اقتصاديا وخدميا، فضلا عن كونه
آمنا، فقد دأب النظام وحليفه الروسي على قصف هدف مدني عشوائي في سوق تجاري، أو ما
شابهه في مناطق المعارضة، مع تصاعد الحديث التركي عن العودة الآمنة، بهدف إحراج
أنقرة.
من جانب آخر، نجد الولايات المتحدة وإسرائيل لا تزالان
في جهود حثيثة لإدارة النشاط الإيراني في سوريا، حيث باتت الغارات الإسرائيلية على
أهداف إيرانية، خاصة في محيط مطاري دمشق وحلب، الانعكاس الأوضح لحالة القلق من
تعاظم دور إيران في سوريا إلى حدود مخلة بالمعادلة الأمنية لإسرائيل.
أما علاقة روسيا والولايات المتحدة في سوريا، فتبدو
الأشد حذرا، إذ لم يتقدم الغرب حتى الآن باتجاه شيطنة روسيا في سوريا كظلال للحرب
الأوكرانية، رغم امتلاكه أدوات ذلك. إذ يحسب الغرب حسابا لردة فعل روسية مشابهة
في البلقان، حيث يتأهب حلفاء موسكو الصرب لفرص مواتية لتعديل خريطة البلقان التي
فرضها المجتمع الدولي، في أعقاب تدخل الناتو في كوسوفو عام 1999. ومعروف أن أولى
تداعيات اضطراب البلقان، هو تدفق موجات من اللاجئين باتجاه وسط وغرب أوروبا.
ويبدو نظام الأسد أكثر القلقين، حيث يتكشف مع الوقت أن
لحظة "انتصاره" في الصراع الدموي على المعارضة قد تكون أخطر تحدياته.
فمنذ 2018 انهارت العملة السورية، حيث وصل سعر صرف الدولار بالليرة السورية إلى
15000 ليرة في آب/ أغسطس 2023، بينما كان بقيمة 450 ليرة للدولار الواحد في 2018.
واكتشفت الحواضن الاجتماعية لأطراف الصراع داخل سوريا، أن اقتصاد الحرب، بكل ما في
الحرب من مآسٍ، كان كفيلا باستمرار تدفق الدعم الخارجي لأطراف الصراع، الذي كان
ينعكس بشكل أو بآخر على دورة الاقتصاد. كما أن حلفاء حرب النظام اليوم ينتظرون
مكافأتهم التي يعجز النظام عن تقديمها سوى من قراره السياسي، فإيران تسجل ديونا بعشرات المليارات على النظام، وتستمر بابتزازه من أجل انتزاع تنازلات سيادية في
البلاد، حيث يُشار لدور إيران في إفشال استجابة النظام لمبادرات الانفتاح السياسي
الإقليمية.
مشروع تركيا في حلب ليس بالتعقيد الذي قد نتخيله، ففي حال اختارت أنقرة مسارات خشنة لذلك، فهي مسألة قد تحتاج تفاهما مع روسيا فقط، التي ترغب بدورها في تقليم أظفار التوسع الإيراني في سوريا. وقد يكون هذا في إطار مقايضات ما تبحث موسكو اليوم عن الكثير منها، في ضوء أزمتها مع الغرب في أوكرانيا. وما قد يدعم هذا المشروع، هو مقايضة في جانب آخر، يبدو أن تركيا اليوم تقدمها للولايات المتحدة، عبر تعاون في المهمة المحتملة ضد الوجود الإيراني عند الحدود العراقية السورية.
أمام هذا المشهد، فإن التفكير في دفع الجمود ولو
عسكريا، لا يبدو أمرا مستبعدا. وهذا ما بدأت بعض ملامحه في التحرك الأمريكي في
قاعدة التنف الحدودية مع العراق، حيث بدأت الولايات المتحدة بالتعاون مع تركيا، في
نقل مئات من مقاتلي المعارضة السورية وتدريبهم على أعمال قتالية في مهمة لم يُفصح
عنها، لكن يُرجّح أنها بهدف السيطرة على الحدود العراقية السورية، وقطع طريق
التزود البري لمليشيات إيران في سوريا.
أما في الشمال السوري، فإن مدينة
حلب مرشحة لأن تكون
في قلب المشهد من جديد؛ فتركيا تتطلع إلى حلب كحل شبه وحيد لمشكلة اللاجئين
السوريين، وقد كانت المدينة الاقتصادية الأكبر في سوريا محور المقترحات التركية مع
الجانب السوري. فتركيا تأمل بإعادة تأهيل البنى التحتية للمدينة، وتطويرها كمركز
جذب اقتصادي، وتوظيفها كمركز أعمال سوري قادر على استيعاب وجذب اللاجئين السوريين
في تركيا، إلا أن النظام أفشل هذه المقترحات رغم فائدتها على اقتصاده المنهار،
والسبب، فيما يبدو، معارضة إيران. إذ إن وظيفة حلب الجديدة ستقلص من سيطرة القوى
المدعومة إيرانيا على المدينة، كما أن نظام الأسد يرغب بتعميق أزمات تركيا
الداخلية، ويعتبر اللاجئين مشكلة تركية بحتة.
لا يبدو أن تركيا ستتوقف عن التطلع باتجاه حلب،
بالجزرة أو بالعصا، إذ تُطرح أفكار تركية من قبيل إدارة أممية للمدينة، ولكن هذه
الأفكار لا تستبعد خيار القوة العسكرية والسيطرة المباشرة، وفق ما عبر عنه السياسي
التركي ياسين أقطاي في مقاله في الجزيرة نت يوم 31 آب/ أغسطس 2023. وأقطاي، كما هو
معروف، شخصية تعمل قريبا من دوائر صنع القرار التركي، وكلامه قد يعكس بالضرورة ما
يدور من أفكار داخلها، كما أن تحرك مجموعات قتالية لحزب الله من دمشق وريف حمص إلى
حلب، مؤشر هو الآخر على جدية التصعيد المحتمل.
إن مشروع تركيا في حلب ليس بالتعقيد الذي قد نتخيله،
ففي حال اختارت أنقرة مسارات خشنة لذلك، فهي مسألة قد تحتاج تفاهما مع روسيا فقط،
التي ترغب بدورها في تقليم أظفار التوسع الإيراني في سوريا، وقد يكون هذا في إطار
مقايضات ما تبحث موسكو اليوم عن الكثير منها، في ضوء أزمتها مع الغرب في أوكرانيا.
وما قد يدعم هذا المشروع، هو مقايضة في جانب آخر يبدو أن تركيا اليوم تقدمها
للولايات المتحدة، عبر تعاون في المهمة المحتملة ضد الوجود الإيراني عند الحدود
العراقية السورية. فتركيا تريد من واشنطن إضافة لضوئها الأخضر على المشروع، أن تغض
الطرف عن إنهاء الكانتون الكردي شمال حلب الذي سيكون استحقاقا طبيعيا لمثل هذه
العملية.
يبدو المشهد السوري ماضيا إلى مرحلة جديدة بعد خمس سنوات خاوية من أي تطورات، غير ازدياد الفقر وتعمق التفتت الاجتماعي بين معظم شرائح الشعب على امتداد مناطق سيطرة الأسد وحلفائه. وقد تدفع هذه الأجواء الساخنة إلى انفراجات سلمية ملموسة بالقدر الذي قد تدفع فيه تصعيدا عسكريا؛ إذ سيرغب النظام وحليفه الإيراني بإبداء مرونة من أجل تجنب الأسوأ.
بالتزامن مع هذه التطورات، فإن حركة الاحتجاج في
السويداء ودرعا واستمرارها قد ترتبط هي الأخرى، إضافة إلى محفزاتها الموضوعية
اجتماعيا واقتصاديا، بإعادة تشكل إرادات إقليمية ترغب بالضغط على نظام الأسد،
خاصة مع برود مسار الانفتاح العربي الأخير على نظام الأسد، بسبب فشل مبادرة
"خطوة مقابل خطوة" في تحقيق تقدم، خاصة ما يتعلق بتجارة الكبتاغون.
والسؤال الأهم، ما هي إمكانية مثل هذا السيناريو، الذي
يستهدف إيران في الشرق والشمال والجنوب في وقت واحد؟ الجواب هو في سؤال آخر: من هم
خصوم مثل هذا التصعيد ضد إيران؟ الجواب: لا أحد، وربما بمن فيهم النظام نفسه، الذي
يرى أنه فاقد للسيطرة على قراره السياسي، وسيرغب بالتحرر من الابتزاز الإيراني على
ما تبقى من سيادته، خاصة أن إيران لا تبدو أنها تمتلك بديلا أفضل للنظام.
تحت هذه الغيوم الملبدة، يبدو المشهد السوري ماضيا إلى مرحلة جديدة بعد خمس سنوات خاوية من أي تطورات غير ازدياد الفقر، وتعمق التفتت
الاجتماعي بين معظم شرائح الشعب على امتداد مناطق سيطرة الأسد وحلفائه، وقد تدفع
هذه الأجواء الساخنة إلى انفراجات سلمية ملموسة بالقدر الذي قد تدفع فيه تصعيدا عسكريا؛ إذ سيرغب النظام وحليفه الإيراني
بإبداء مرونة من أجل تجنب الأسوأ.