التأمل في الوقائع التاريخية المتجددة الأوجه للحالة العربية، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، والتي قادت للكشف عن "تعاون علمي" صهيوني إماراتي قيل عنه إنه لمواجهة "جائحة كورونا"، هو تتويج لتعاون أمني واقتصادي كانت أبو ظبي قد مهدت الأرضية المناسبة له، وهو تتمة منطقية لسلسلة من المقدمات العربية التي لم تنقطع حلقاتها يوما في أكثر من عاصمة عربية، ولو أنها تأخذ شكل الضعف في بعضها أحيانا.
الملامح الفاصلة لهذه السلسلة في حلقات قوتها وضعفها، جاءت لتثبت تبعية النظام الرسمي العربي في القاهرة والرياض وأبو ظبي ودمشق لحلقة الوصل الصهيوني فيما بينها. تآزر وتعاضد هذا الحلف فيما بينه لقيادة الثورات المضادة بدموية غير مسبوقة؛ حدث ليؤكد أن النظام الرسمي العربي يلحق بعضه بالبعض الآخر بمخططات السيطرة والنفوذ.
استقراء بسيط لتنامي خطوات
التطبيع مع المؤسسة الصهيونية والتسهيلات التي تتم على الأرض، إن كان بالمشاركة في تدمير العوامل الذاتية لصالح تفوق صهيوني ودونية عربية، أو بازدياد التعاون والتنسيق مع تل أبيب، يثبت صحة هذا القول.
ففي الوقت الذي تشهد فيه عواصم دولية تحركات شعبية ضد الإجراءات الصهيونية على الأرض، تتسم ردود الفعل العربية الرسمية على خطط الضم
الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية؛ بصمت مريب، باستثناء بعض ردود الفعل الإعلامية "الغاضبة" في محور الممانعة، والمنشغلة في تقييم أداء السياسة التركية وشن هجوم موحد عليها، دون تقصٍ للوقائع والسياسات التي قادت إليها والآفاق الاستراتيجية التي تتأتى عنها، لا سيما لجهة ارتباطها بالأهداف الاستراتيجية للسياسة التركية في المنطقة العربية بعد قيادة محور الثورات المضادة في أبو ظبي والرياض والقاهرة ودمشق؛ حلفا معاديا لتركيا، بموازاة حملة تطبيع غير مسبوق مع الاحتلال الإسرائيلي؛ تكشف كل من أبو ظبي وتل أبيب والرياض والبحرين عن بلوغه مراتب متقدمة.
فما الذي يدعو دولة نفطية كالإمارات أو
السعودية، تمتلك تريليونات الدولارات، للبحث عن تعاون أمني أو "علمي" مع احتلال تنميته قائمة على سحق مجتمع أصحاب الأرض والسطو على تاريخه وتراثه ومقدراته؟ ومن ثم، ما الذي فعله اقتصاد هذه الدولة ومن يشبهها في المقلب النفطي أو مقلب الاستبداد لجهة التنمية، ورفد مؤسساته بقوة أمنية وعلمية طوال عقود من التشدق بالتسلح وبناء الأبراج وفتح الشوارع واستعراض الجيوش، وصولا لتقديم عجز عن مواجهة أخطار وتحديات لا سبيل لمواجهتها إلا من البوابة الإسرائيلية؟
معظم الإجابة تصب في الحاجة الرسمية العربية للتقارب مع تل أبيب لكسب شرعيات مشكوك بها، كما هي شرعية المؤسسة الصهيونية.
لن نتوسع أكثر عن الحديث في مشاريع التكامل بين أبو ظبي وتل أبيب التي شملت مختلف المجالات الاقتصادية والأمنية والرياضية و"العلمية".. الخ، وأنها تعبر بجلاء عن تقارب سياسي لم تهزه عدوانية المحتل وجلاء بوصلته عن السيطرة المطلقة على الأرض الفلسطينية.
وبالعودة للتعاون القائم بين أبو ظبي وتل أبيب أو مع بقية العواصم بشكل سري، نعود مجددا لوثيقة تاريخية لشمعون بيريز، في خطاب ألقاه بعد عام على حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، في معهد "أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي"، تحت عنوان "مستقبل إسرائيل بعد الحرب"، وبعد الشعار العربي المنتشر آنذاك "هزمنا الجيش الذي لا يُهزم"، أوجز بيريز المستقبل ببضع كلمات، فقال إن إسرائيل تستثمر في التكنولوجيا وفي الإنسان، وطالما هناك أنظمة تستثمر في السلطة وفي المال فأنتم في أمان.
تم رمي المنطقة العربية تحت وطأة السياسة الصهيونية، وتحت وطأة القمع الوحشي وإدارة دفة التدمير الممنهج بدعم الطغاة لبعضهم البعض في استثمارات لم يخطئها العقل الصهيوني، وتقوية محور الاستبداد بحلقة الوصل من التطبيع مع المحتل أو بتنفيذ ما عجز عنه، سواء بالتدمير أو القمع والقتل.
هذه مؤشرات على الروابط القوية التي تجمع محور الثورات المضادة مع الاحتلال الصهيوني، لتسري بهدوء وسكينة عملية ضم بقية الأرض الفلسطينية، وتفعل فعلها المؤثر دون ضجيج خارجي، ومع ضجيج أعلى بشن حملة شيطنة ضد الفلسطينيين ورميهم بمختلف السباب والاتهامات، وتبني الرواية الصهيونية بما يخص الأرض والمقدسات، وهو في أحسن حالاته فشل في إقناع شوارع عربية لمواجهة عروبتهم وإسلامهم وتاريخهم وحضارتهم، واستبدال كل ذلك في محالفة "إسرائيل" التي يلهب وجودها الاستعماري شرعية أنظمة مهزوزة في البحث عن الاستكانة بمراوغة حتى يهنأ الصهيوني بسيطرته.
أخيرا، تداول العرب قديما أمثالا عدة عن العلم.. "اطلبوا العلم ولو في الصين"، و"اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، وقد قال تعالى في محكم كتابه: "وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ" (النحل: 78).. ويتداول الحاكم العربي في زماننا تسويق فهلوة طغيانه في استبدال وجهة التعاون: اطلبوا العلم من تل أبيب، والأمن أيضا. وبحساب بسيط للتعاون التجاري أو الأمني مع المؤسسة الصهيونية الذي تسعى إليه بعض الأنظمة، فهو يميل لصالح المحتل في تزويد هذه الأنظمة تكنولوجيا استخدمت في قمع الفلسطينيين وسلب أرضهم وليعجب، بها محور "إسرائيل فرصة" كي نمكنها من بسط سيطرتها علينا.
twitter.com/nizar_sahli