قضايا وآراء

معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في البيان السياسي لأبي بكرٍ الصدّيق

محمد خير موسى
1300x600
1300x600
بعد أنّ بيّن الصدّيق أبو بكرٍ رضي الله عنه في مستهلّ بيانه السياسيّ الأوّل ماهيّةَ الحاكم ومصدرَ شرعيَّتِه، وذلك في قوله: "أيها الناس: إنّي قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم"، انتقل إلى تعريف النّاس بواجبهم تجاهه وهو في سدّة الحكم، راسما أهمّ معالم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في المنطق الرّاشديّ؛ فيقول: "فإنْ أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوّموني".

وفي هذه العبارة قواعد بالغة الاهميّة في تعامل المحكوم مع الحاكم؛ منها:

* ضرورة التّوازن في النّظرة للحاكم والقائد

إنّ هذه العبارة من الصدّيق رضي الله عنه رسالةٌ إلى الرعية ومن هم تحت الحكم بضرورة النّظرة المتوازنة إلى القائد والحاكم؛ فهو بشرٌ يصيبُ ويخطئ، ويحسنُ ويسيءُ، فلا عصمة له مهما بلغ من المكانة، ولا تنزيه له عن القصور والخلل مهما بلغ من العقل والحكمة والكفاءة. وهو أيضا موظفٌ مكلّفٌ من الشعبِ للقيام بمهامه، فيمكن أن ينجح ويفشل، ويتقدّم ويتراجع.

وهنا نرى أن فريقين ذهبا إلى أقصى الطّرفين المتناقضين قد ابتعدا كلّ البعد عن الرشد في النّظرة للحاكم والقائد؛ طرفٌ يرى في الحاكم والقائد عصمة عن الخلل وينزّه أفعاله عن الزّلل، فالقائد عنده مُلهمٌ على كلّ حال، مصيبٌ في كلّ فعل، عبقريٌّ في كلّ قرار.. والحقّ عنده هو ما قاله الحاكم والقائد، والباطل ما اعترض عليه هذا الحاكم، والتأييدُ المطلق عنده هو أصل العلاقة بين القائد ومن يقودهم وبين الحاكم ورعيّته.

وطرفٌ مقابلٌ معارضٌ دوما ومعترضٌ على كلّ شيءٍ، يرى كلّ ما يصدرُ من القائد خطأ ويعدّ كلّ فعلٍ أو قولٍ منه خطيئة، ويعدّ المعارضةَ المطلقةَ هي الأصل الأوحد في تعامل الرعيّة مع قائدها وحاكمها.

وكلا الطّرفين جانب الصّواب وحاد عن الرّشد الذي يقتضي توازن النظرة، وتوازن التعامل مع القائد والحاكم على أساس اجتماع صفتي الإحسان والإساءة في شخصه؛ بناء على مقتضى الطبيعة البشريّة.

* مراقبةُ الحاكم ومحاسبته واجبٌ على الشّعب

إنّ معرفة مواضع الإحسان والإساءة والصّواب والزّلل في عمل الحاكم يقتضي مراقبة سلوكه في الحكم، والتّدقيق في أفعاله، ومتابعة تصرّفاته.

وما دامت الأمّة هي صاحبة السّلطة في التعيين والعزل؛ فإنّ ذلك يوجب عليها التدقيق والتّتبّع، والبحثَ والتّقصّي، والسّؤال والمساءلة، ولا يحقّ لصاحب الولاية أيّا كان حاكما أو مسؤولا أو قائدا أن يضيق ذرعا بمراقبة الأمّة له ومساءلتها إيّاه.

وهذه المراقبة يشترط فيها أن تكون موضوعيّة فترى الإحسان في عمل الحاكم بالعين ذاتها التي ترى الإساءة؛ فلا تضخّم الإنجازات لتنفي الإساءات والتّجاوزات، ولا تضخّم الإساءات لتشيطن الحاكم عبر نفي إحسانه وإنجازاته.

وعند حصول الإحسان من القائدِ، كأن يوفّقَ في قرارٍ أو يبدعَ في موقفٍ أو ينجحَ في حلّ معضلةٍ، أو يحسنَ في كلمةٍ يقولها أو تصريحٍ يصرّحه، فمن الواجب على الرعيّة أن تعينَه بالقول والفعل، ومن الإعانة أن يُشكَرَ على موضع إحسانه وأن يتمّ التّواصل معه تعزيزا لموقفه وتأكيدا على حسنِ صنيعه. فالقائدُ بشرٌ يشدّ عضده الكلام الطيّب، ويثبّت قدمه رؤية ثمرة صوابه في رعيّته، على ألّا يتحوّل هذا الشكر والمديح والإشادة إلى نوعٍ من المداهنة المبالغ فيها، أو التطبيل الذي يقطع ظهر القائد ويجعله يعيشُ مع الأيّامِ دورَ المخلّص الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه.

وكذلك، فإنّ الشّيطنة المطلقةَ التي تقومُ على إغفال كلّ إحسانٍ وتجاهله والتّعمية عليه، وتضخيم كلّ إساءةٍ؛ ليست من التقويم الذي قصده الصدّيقُ أبو بكرٍ رضي الله عنه في شيءٍ، بل هي ضربٌ من الهدمِ الذي يتنافى مع الرّشد في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

* تقرير حقّ المعارضة في العمل ورسم منهجها الرّاشد

يطلبُ الصّدّيق رضي الله عنه من النّاس بعد أن يراقبوا أعمالَه إذ يقول: "فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني".

ثمّ يطلب منهم أن يكونوا شركاءه في العمل إن كان حقّا ويحقّق مصلحة الأمّة، كما يطلب منهم أن يتدخّلوا لتصويبه حين يرتكب خطأ أو إساءة في التّصرّف والسّلوك. وفي عبارة الصّدّيق هذه في تقرير حقّ المعارضة في العمل ورسم منهجها الرّاشد؛ ملامح عدّة أهمّها:

1- في هذه العبارة ضمانة لعمل الجهات المعارضة داخل الدولة، وترسم المنهجيّة الإيجابيّة في العمل المعارض التي تقوم على الإعانة في الحقّ والتدخّل الإيجابيّ للإصلاح والتقويم عند حدوث الخلل.

2- الحكم الرّاشد يجعل الحقّ في هذه القضيّة لجميع أبناء الأمّة موالين ومؤيّدين ومعارضين، ويجعلها ضمن إطار "الحسبة"، وهو أوسع مجالا من مجرّد انتقاد أو تأييد؛ بل يتجاوز ذلك إلى القيام بإجراءات مشروعة تقويميّة تصحيحيّة عبر القنوات والمؤسسات المعدّة لهذا.

هكذا نرى أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه قد أسّس في خطابه وبيانه السياسيّ الأول لعلاقة سليمة بينه وبين الرعيّة، إذ عدّهم المحور الرّئيس في وثيقته السياسيّة، واضعا من القواعد ما يضمن أن يكونوا شركاء حقيقيين وفاعلين في مسيرة الحكم الرشيد، لا مجرّد مطبّلين أو مصفّقين.

twitter.com/muhammadkhm
التعليقات (0)